مغامرات أنثوية في اللوحة والعالم

الحرية تشكل القاسم المشترك في معرضين نسويين بغاليري خان المغربي حيث بدت الأصابع الأنثوية أكثر التصاقًا بالهمّ الإنساني والقضايا الحيوية.
الأحد 2019/02/03
بهجة الألوان تصنع حيوية الحياة (عزة أبوالسعود)

عيون المرأة هي النوافذ الأكثر شفافية للإطلال على براكين القلق الفني وحساسية التصوير والرغبة في تحريك المفاهيم وتفجير الرؤى وبلوغ حرية التعبير، وهذا ما تسعى إليه 12 فنانة تشكيلية معاصرة في أعمالهن الجريئة بمعرضين مقامين حاليًا في القاهرة.

تحتل الإبداعات النسوية مكانة متميزة في المشهد التشكيلي المصري بأطيافه وثيماته وتياراته المتنوعة، وتبدو الأصابع الأنثوية أكثر التصاقًا بالهمّ الإنساني والقضايا الحيوية والمعاني المتوهجة والمشاعر الفياضة.

وفي سبيلها إلى إثبات ذاتها وفرض وجودها، تراهن المرأة المبدعة على التمرد والتخييل وطرق الأبواب الجديدة برهافة وسحر، وتتعاطى مع الخامات التقليدية بأساليب مبتكرة. في هذا الإطار، يأتي المعرضان النسائيان اللذان يحتضنهما غاليري “خان المغربي” في حي الزمالك بالقاهرة، وفيهما ينطق النحت والتصوير والخزف بلغة ناعمة مؤثرة.

تبدو الحرية قاسمًا مشتركًا في المعرضين النسويين المقامين حتى السابع من فبراير المقبل بغاليري خان المغربي، إذ يتسعان لأعمال تجريبية ومغامرات بصرية وطرائق تعبيرية ثورية متجددة، تنفتح فيها خصوصيات المرأة ودواخلها الملغزة على أوجاع البشر بصفة عامة، ليصير الجرح الدامي المضيء عنوانًا للحظة الراهنة.

حان وقت الانطلاق (مريم سامح)
حان وقت الانطلاق (مريم سامح)

المعرض الأول، على مدار شهر كامل، بعنوان “إسكندرية.. ديالوج من اللون والحجر”، وفيه حوار استثنائي بين مجسّمات وتكوينات نحتية للفنانة ياسمينة حيدر، وأعمال تصويرية للفنانة عزة أبوالسعود، في مزيج يتسم بالحداثة والغوص في تفاصيل وجوّانيات مدينة الإسكندرية، عروس البحر المتوسط، وملتقى الحضارات والثقافات والجنسيات والفنون المختلفة عبر التاريخ.

أما المعرض الثاني، على مدار أسبوعين، بعنوان “عشرة على عشرة”، ويضم توليفة متجانسة من اللوحات الزيتية وأعمال النحت والخزف لعشر فنانات من أجيال مختلفة، يزرعن أزهارهن الغريبة لتواجه عطورها المتصاعدة خراب العالم.

معين الخلود

 في تجربتهما المشتركة “ديالوج اللون والحجر”، تنهل منحوتات ياسمينة حيدر، ولوحات عزة أبوالسعود، من معين الخلود، منطلقة من منارة الإسكندرية القديمة، وصولًا إلى شاطئها ورملها وحاضرها الحالي.

في تقصيهما للإسكندرية، لا تتعامل الفنانتان مع المدينة بوصفها أمكنة وأبنية وخرائط تتبدل، وإنما تستقطران روح الكوزموبوليتانية الجامعة المحلّقة، وطبيعة البشر، والسمات الشعبية الثابتة والمتغيرة عبر الزمن، وكيف تستمد الأرض جغرافيتها من عبق التاريخ وخصوبة الأساطير.

تنحدر خطوط عزة أبوالسعود (68 عامًا)، المتخصصة في الغرافيك والحفر وفلسفة الفن، من إيمانها بأن الخطوط المرسومة والمحفورة هي أصدق العناصر التشكيلية في التعبير عن الذات، وهي أساس تحديد جماليات العمل الفني برمته، فانطلاقة الفن قائمة على عملية التحديد والرغبة في رسم خطوط، فهكذا يتحدد الطريق الواصل بين مدارات الغموض والشكل الخارجي.

هنيئًا للطيور والطائرات الورقية (رغدة الشنواني)
هنيئًا للطيور والطائرات الورقية (رغدة الشنواني)

تترجم أبوالسعود تموجاتها الداخلية، وتفاعلاتها الذاتية مع أمواج البحر من حولها، والفواكه والفراشات والأصداف والألوان المبهجة، إلى تنويعات من الخطوط المتعددة، المستقيمة والمنحنية والمتعرجة، الموصولة والمتقطعة، بأسلوب حداثي فريد.

هذا الأسلوب التعبيري ينطوي على قيم جمالية تحيل ما يحيط بالفنانة من الأفكار والأشكال إلى مفردات رامزة في عالم مجرد متوافق ومنسجم، تأخذ الشجرة فيه دورًا، والزهرة، والطائر، ويلتقي الرجل والمرأة كما قد لا يلتقيان في الحقيقة، وتحتشد معاني الدين والخير والمحبة والإخاء والسلام النفسي.

على درب الصعوبة ونهج التحرر والتمرد على الواقع تمضي أيضًا الفنانة ياسمينة حيدر، أستاذة النحت بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، مستثمرة خبراتها في تطويع المواد المستعصية وتركيب الألوان وتشكيل الأضواء والخامات الطبيعية.

في تكويناتها الحجرية، تقيم ياسمينة حيدر جدلًا بين الأشكال والألوان، بمجسّمات من صخور البازلت البركانية النارية شديدة الصلابة، التي تعكس القوة والقتامة، وأخرى من “حجر التلك الصابوني” بلونها الفيروزي الموحي بالإشراق والنماء والغموض، لتقدم التوليفة النحتية حالات متنوعة من المشاعر الإنسانية المتناقضة، كأنها موجات البحر المتراوحة بين الهدوء والصخب، والمد والجزر.

وتبتدع ياسمينة حيدر تكوينات مرهفة من البازلت المطعم بالزجاج، تعكس شفافية المرأة الروحية والوجدانية، وما يعج بها من عواصف بفعل عوامل القهر التي تحيط بالمرأة وتكبلها وتأسرها، وتسعى الفنانة إلى استبدال مناطق العتمة في داخل المرأة بطاقات إيجابية متفجرة ومصادر إشعاع تنير بصيرتها وطريقها وهي تخطو صوب المستقبل.

الجذور والرموز التراثية الموحية (نسرين حسن)
الجذور والرموز التراثية الموحية (نسرين حسن)

في الإطار ذاته، ينطلق معرض “عشرة على عشرة” قاصدًا الحرية سبيلًا للتعبير الفني المتخلّي عن القيود المدرسية والقوالب الأكاديمية الجامدة، وذلك في مجموعة من الإبداعات المتميزة للفنانات: مريم سامح، رغدة الشنواني، نسرين حسن، أمنية محمد، ميسون الزوربا، آية عامر، خلود سلمان، رانيا الحلو، صفاء عطية، مروة نجيب.

رغبة في التحليق

في أعمال الفنانات المتنوعة بين اللوحات الزيتية والنحت والخزف، تتعدد الأيقونات والرموز الدالة على الانفلات والرغبة في التحليق بعيدًا خلف الأسوار واقتناص فرصة الحياة، فهناك الطيور المرفرفة في السماء، والطائرات الورقية الملوّنة المبهجة رغم قتامة الفضاء ذاته، والنوافذ المفتوحة في الجدران الصمّاء، والأزهار المتفتحة، والزوارق المنطلقة فوق صفحة المياه.

على مستوى الرؤية، والتكنيك الجمالي، ثمة تحرر كذلك، فالبيوت تكتسب حيويتها وانسيابيتها وإنسانيتها من غير بشر يظهرون في المشهد، كما في لوحة رغدة الشنواني، وألوان ملابس المرأة هي ذاتها ألوان القوارب السابحة في لوحة مريم سامح، بما يوحي بالتماهي التام بين الكائنين (المرأة والقارب) الراغبين في التحرك وتحدي الأقدار.

وتأتي المفردات والعناصر التراثية، كالمنمنمات والزخارف والأشكال الهندسية المستوحاة من الفن الإسلامي، ومفتاح الحياة والجعران والمسلة المستقاة من الفن الفرعوني، لتمثل جذور الهوية المصرية في المعرض الذي تهيمن عليه النزعة الحداثية، وتشكل أعمال الفنانات في محصّلتها ما يمكن تسميته ضميرًا للوجدان الجمعي المتطلع إلى آمال التحرر والتغيير.

13