سوق القزدارة معلم ليبي ربح السياح وفقد زبائنه الأصليين

نحّاسون ليبيون يحاولون الحفاظ على مهنة الأجداد متحدين موجة إغلاق الدكاكين.
الخميس 2019/01/31
ترك المهنة لم يفقد الأواني بريقها

يقاوم عدد قليل من التجار انقراض مهنة ضاربة في القدم في العاصمة الليبية طرابلس، وهي صناعة الأواني والأدوات النحاسية، حيث بدأ سوق العملة في السنوات الأخيرة يزاحم ليسطو على سوق القزدارة القريب منه.

طرابلس - كانت أصوات المطارق تُسمع من ميدان الشهداء وسط طرابلس، وهي تهوي على صفائح النحاس، تهيّئها تحفاً وأواني جميلة، للأزاميل الرقيقة التي تَرْسُم على صفحتها أجمل الزخارف.. هكذا كان الحال عبر عصور، قبل أن تتبدّل الأوضاع في ركن من طرابلس القديمة “سوق القزدارة”.

وهو سوق لتصنيع وبيع منتجات النحاس والفضة، سُمِّي “القزدارة” نِسبة لطلاء الأواني النحاسية بالقصدير (القزدير كما يسمّيه الليبيون).

ويقع السوق داخل أسوار المدينة القديمة بطرابلس، خلف مبنى مصرف ليبيا المركزي عند مدخل برج الساعة، وهو لا يزال إلى اليوم أحد معالم طرابلس الضاربة في القدم، وكان إلى حد قريب مقصدا للسيّاح؛ قبل أن تدخل البلاد أتون الفوضى عام 2011.

ويرجّح النحّاسون أن تاريخ السوق يعود للعصر العثماني الأول، قبل أن يزدهر أيام “الأسرة القرمانلية” (1711-1835)، واستمر إلى العهد العثماني الثاني والاحتلال الإيطالي، إلى نهاية عصر المملكة الليبية حين اكتُشِف النفط. ومع رواج صادراته وامتلاء خزائن الدولة من عائداته إبان حكم معمر القذافي (1969-2011) اتجه أغلب الليبيين في المدن إلى شغل الوظائف الحكومية وترك المهارات الحرفية العديدة التي كانوا يتقنونها، لكن قِلّة فقط استمرت ونقلت ما تعلّمت وابتكرت، فيما اندثرت
مهن طواها الزمن وشغل أخرى حرفيون أجانب.

القزدارة هو أحد الأسواق التي استمرت فيها الحياة ولو بتعثرٍ حتى اللحظة، ولا أحد يدري إلى متى سيصمد، فبعد أن كان مكتظا بورش الصناعة ودكاكين التجارة، صار جزءا من زقاق يحمل إرث وذكريات المكان، فماذا يتوقع النحّاسون؟

إنقاذ المكان من الانقراض واجب
إنقاذ المكان من الانقراض واجب

يبدو أن بعض النحّاسين لا يحبون لحظات الوداع، فكل صباحٍ يشرع أحدهم ويُدعى مختار رمضان النحايسي كعادته مع أخيه مبكرا في إيقاد الفرن وتسخين النحاس أو الفضة، تمهيدا لمعزوفة الطرق أو اللحام، والنقش أو الطلاء.

وينتج مختار ونحّاسون آخرون باقون في السوق نوعين من أشغال النحاس أو الفضة، بعضها يتعلق بصناعة وترميم أهِلَّة مآذن المساجد والتحف والإكسسوارات المختلفة، والآخر بالقدور وأواني الطهي والمهاريس والأباريق الخاصة بإعداد الشاي والقهوة.

وعلى الرغم من المخاطر التي قد تحدُّ من استمراره، لا يزال السوق يستقبل العديد من الشباب الصغار كعبدالله مسعود الإحيول الشاب العشريني الذي قال إن “ظروف البلاد الاقتصادية الصعبة هي التي دفعت به لتعلّم صنعة النحاس قبل سبعة أشهر”.

ويقوم عبدالله برفقة طالب الثانوية ذي الـ16 عاما أحمد محيّر بتلميع وتنظيف الأواني وتحف النحاس والفضة والستانليس ستيل، ويشتكي أحمد من قلّة المردود، وعبدالله يقول إنه رغم المجهود البدني المرهق، إلا أن أجواء السوق تُشعره في المقابل بالراحة.

وفي ورشته بمنتصف السوق، يبدي سليل عائلة النحّاسين القُدامى مختار الكثير من القلق، وهو ينظر إلى المكان بزاوية خاصة، قائلا “هي عادة وتقليد متوارث لدينا وليست مجرد حِرفة، وما يقلقني أن يصبح السوق مجرّد ذكرى مع صورة على حائط، فقد قلّ النحّاسون والناقشون ممن توفاهم الله، أو من تركوه واتجهوا لمهن أخرى نتيجة ارتفاع أسعار المواد الخام، وبالتالي ارتفاع أسعار المنتجات وقلة الطلب”.

وأضاف أن “الحكومات المتعاقبة لا يزيد التفاتها للسوق عن زيارات تفقدية، والخطر الأكبر الذي داهم المكان مؤخرا وينذر بالضربة القاضية، يأتي من مدخل القزدارة، عند سوق العملات السوداء المجاور الذي بعد أن غلّى الأسعار والتهم الاقتصاد، يريد أن يحلّي الوجبة الدسمة بورش ومحلات النحاس”.

أدوات منزلية يمكن أن تصبح طي النسيان
أدوات منزلية يمكن أن تصبح طي النسيان

ويصدّق الناظر في حال سوق العملة السوداء الموازي، أو “سوق المُشير” كما يسمّى، مخاوف النحّاسين من انقراض صنعتهم، فما إن تقترب من برج الساعة؛ حتى يأخذ نظرك ازدحام التجار والمضاربين والمشترين في تجمعات بساحة السوق أو داخل المحلات.. عربات يدوية كثيرة تجوب الأزقة الضيقة تجرّ أكياسا سوداء مليئة بالنقود، عمليات بيع وشراء بالملايين وبمختلف العملات تتم يوميا مستغلة فرق سعر صرف الدينار الليبي “الرسمي والموازي” الذي وصل سابقا إلى سبعة أضعاف ويتغير بشكل مستمر ارتفاعا وانخفاضا بأرقام غير مسبوقة.

وقد سال لعاب التجّار وتهافتوا على دخول السوق والتوسّع فيه عبر شراء أو تأجير المحلات المجاورة، ولا فريسة أسهل من صاحب ورشة نحاس قديمة لم تعد تدرّ ربحا مجزيا.

النحّاسون يرجحون أن تاريخ هذه السوق الليبية القديمة يعود تحديدا للعصر العثماني الأول

ولم يرغب الكثير من تجّار سوق العملة في الحديث حول الأمر، وأفاد أحدهم مصارحا، دون أن يرغب في كشف اسمه، “لم نختر نحن مكان السوقين، فتجارة العملة ارتبطت منذ زمن بتجارة الذهب لأنهما يزدهران في الأماكن الأكثر أمنا، وليس هناك مكان أكثر أمنا من سوق الذهب لممارسة هذا النشاط، ومن سوء الحظ أنه مجاور لسوق القزدارة القديم، كما أن وجود مقر مصرف ليبيا المركزي بجانب سوق العملة، زاده أمنا وقربا من مكان صنع القرار”.

ولم يخف التاجر الشاب حبه لمعالم طرابلس، وخشيته على تغيير ملامحها التراثية، ولكنه يرى أن “استمرار كل الأسواق القديمة إلى الأبد مستحيل، وأن قوانين التطور الاقتصادي تتيح البقاء لمن يستطيع البقاء”.

ويختلف الأمر مع مختار الذي تجاوز منتصف العمر ويجيد الحديث كإجادته ليّ المعادن، هو لا يحبذ رؤية الأمر من الجانب الاقتصادي حين يختم بالقول “سوف أبقى في ورشتي ببساطة، فلن يفهم الاقتصاد شعوري عندما يحضر أحد الزبائن لغرض الترميمِ أو التلميع تحفة نقشها سابقا أبي أو جدّي أو أحد المعلمين القدماء تعكس ثقافة تلك الأيام، إن فرحتي بتجديد تلك القطعة تفوق فرحة تجّار العملة بمكاسبهم، وفرحة الزبون عند رؤية تحفته العتيقة وقد عادت لها الحياة”.

Thumbnail
20