تحت رحمة القسوة

لا يمكن للمرء أن يستبعد وجود أخطاء أو مخالفات مالية ربما كان قد ارتكبها كارلوس غصن، أو ارتكبت له عن قصد أو غير قصد. إلا أن مُنقذ “نيسان” من الإفلاس وأحد أكبر رموز صناعة السيارات في العالم، يُعامل بقسوة شديدة في اليابان. إنها قسوة تبدو وكأنها عمل من أعمال الانتقام والتحطيم المتعمد، وليس السعي لإحقاق العدالة.
قدم محامو غصن الكثير من الضمانات من أجل إطلاق سراحه المؤقت. وكان آخرها توفير رقابة صارمة يقبلها الادعاء لضمان عدم خروجه من اليابان، وزيادة حجم الكفالة المالية، وقطع كل اتصالاته بمن لهم صلة بالقضية التي يواجه فيها اتهامات بالتهرب الضريبي بل وحتى ارتداء سوار إلكتروني لضمان معرفة كل تحركاته، إلا أن محكمة طوكيو قضت بأن يبقى في السجن حتى يحل موعد المحاكمة.
ولو أمكن النظر إلى قضايا مماثلة فسوف تبدو القسوة اليابانية مفرطة إلى درجة أنها تبلغ حد القتل المتعمد.
اليابانيون يعاملون أنفسهم بقسوة. هذا جزء من طبيعتهم. كما يعاملون كل الآخرين بقسوة أيضا. وإلا لما ارتكبوا كل تلك الفظاعات خلال سنوات الاحتلال لأجزاء واسعة من شرق آسيا قبل وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية.
الانتحار في الثقافة اليابانية جزء من الشرف. وهم ينتظرون منه أن ينتحر. هم في الأساس يحاولون بنمط التحقيقات الوحشية التي يتعرض لها غصن، أن يضعوه في هذا الموضع بالذات. ويحاول المحققون إجباره على الاعتراف بارتكاب جريمة، ليس لأنهم يملكون ما يكفي من الأدلة، بل لأنهم يريدون أن يروا جثته وقد وقعت على سيف.
لقد واجه كريستيانو رونالدو، لاعب كرة القدم الشهير، وبعض أمثاله أيضا، اتهامات بالتهرب الضريبي. وخرج منها بدفع كل الغرامات التي طالبه بها الادعاء في إسبانيا، وعاد إلى عمله.
وأستطيع الزعم أن غصن أكبر مكانة، وأكثر أهمية لصناعة السيارات في العالم من مكانة رونالدو في عالم كرة القدم. عشرات الآلاف من اليابانيين يحتفظون بوظائفهم بفضل جهود غصن وعبقريته.
ربما يكون غصن قد تصرف ببعض البذخ الزائد على نفسه، وكأنه ملك، ولكن لا أحد في كل عالمه يستحق مكانة كهذه أكثر منه. فلماذا لا تتم معاملة قضيته كما عوملت قضايا كثيرة مماثلة في كل أرجاء العالم؟ لو كانت المسألة مسألة مال، فإنه يظل قابلا للتسديد أو التعويض. إلا أن الادعاء الياباني لا يهمه المال كما يبدو. لا يهمه البحث عن أي تسوية، ولكن يهمه أن يرى هذا الرجل وقد مات أو انتحر. وهذه جريمة بكل المعايير الأخلاقية.
وجد المحققون أن الرجل يواجه وضعا أدى به إلى الهزال في غرفة السجن الضيقة، وكاد يعجز عن أن يحضر إلى المحكمة، لولا حرصه على إثبات براءته من الاتهامات التي وُجّهت له. وربما لمجرد أنه كان يرغب بأن يتنفس هواء آخر في الطريق بين الزنزانة وغرفة المحكمة. لعدة أسابيع ظل الادعاء الياباني يماطل، ويبحث له عن قضايا أخرى من أجل أن يُلزم المحكمة بإبقائه في السجن. وهذا وحده كاف للدلالة على أن المسألة مسألة انتقام شخصي من رجل بدت قدمه أعلى من أقدام كل أقطاب الصناعة في اليابان.
تدين اليابان بنهضتها الحديثة إلى السيارات. و”نيسان” واحدة من جواهر التاج الكبرى. وعندما وجدت نفسها تمضي في طريق الإفلاس، قادها غصن إلى الربحية من جديد، كما قاد تحالفا ثلاثيا يضم إلى جانب “نيسان” شركتي “رينو” الفرنسية و”ميتسوبيشي موتورز″ اليابانية، ليحوله إلى قوة ضخمة قادرة على الصمود أمام أعتى المنافسات، بما فيها الألمانية نفسها.
من الواضح أن اليابانيين يشعرون أن هذا الرجل سرق منهم التاج كله أو يكاد. وهم يريدون قتله لهذا السبب، وليس لأنه ارتكب مخالفات. هم يريدون سحقه لكي تخرج “نيسان” و”ميتسوبيشي” من ذلك التحالف لتعودا إلى ثقافتهما اليابانية. ومن أجل ذلك، فما إن تنقضي مدة الحجز، حتى يثيروا قضية أخرى، لكي يبقى فيه، في لعبة تنم عن حقد جاف وكراهية ذات أسنان.
اليوم يبدو غصن وحيدا ولا أحد يدافع عنه، حتى فرنسا التي منحها كل تلك الثقة والأدوات، بأن تصبح قوة في عالم صناعة السيارات. وذلك بينما يحاول اليابانيون أن يقتلوه بصمت تحت ذريعة القانون. شيء واحد أفترضه بثقة هو أن كارلوس غصن يظل كارلوس غصن. إنه واحد من كبار أبطال الصناعة في هذا الزمان.
اليابان، بأحقادها الجافة، سوف تقع على سيفها هي. أما هو فلن ينتحر. سيكون ذلك أفضل تجسيد للعدل. إذ كلٌ إنما يتبع ثقافته.