أزمة الصحافة المصرية تكمن في قياداتها قبل محتواها

سلمت الحكومة المصرية قيادة المؤسسات الصحافية الحكومية إلى شخصيات تضمن ولاءها التام للحكومة، دون الاهتمام بالكفاءة المهنية لإخراج هذه المؤسسات من أزماتها، ما تسبب في تفاقم الأوضاع وزيادة الخسائر لضعف المحتوى، وعدم قدرة هذه المؤسسات على تسديد مستحقات صحافييها وعمالها.
القاهرة - نظم عمال وصحافيو مؤسسة دار الهلال الصحافية، مظاهرات واعتصامات لأول مرة منذ سنوات، بسبب تأخر صرف مستحقاتهم المادية، فيما تخشى مؤسسات صحافية أخرى من امتداد التظاهرات إليها في ظل الأزمة الحالية.
ولجأ العاملون بدار الهلال، هذا الأسبوع، إلى التظاهر للمطالبة بحقوقهم، لأن التزام الحكومة بتوفير رواتب العاملين فيها والبالغ عددهم 30 ألف صحافي وموظف يعملون في 10 مؤسسات، دفع إلى بقاء الغضب مكتوما، وأخفق التوجه الاستثماري بعيدا عن مجال الإعلام في تخفيف حدة الأزمة.
استجابت الحكومة، ممثلة في الهيئة الوطنية للصحافة، التي تتولى إدارة المؤسسات الصحافية، لمطالب دار الهلال ووعدت بصرف المستحقات المتأخرة، وصرف الأرباح السنوية بشكل كامل بعد أن كان من المقرر صرف نصفها نتيجة تفاقم الخسائر داخل المؤسسة، فزادت ديونها على المليار دولار، غير أن ذلك لم يكن كافيا لفض الاعتصام بعد أن طالب المحتجون بإقالة مجدي سبلة رئيس مجلس الإدارة، ما يشير إلى أن الأزمة قابلة للتصعيد، ويمكن أن تنتقل إلى مؤسسات أخرى.
وتخشى دوائر صحافية من انتقال عدوى التظاهرات العمالية إلى مؤسسات إعلامية أخرى تعاني من أوضاع شبيهة، ويتم البحث الآن عن وسيلة لإنهاء الأزمة سريعا. لذلك ربما يكون التعجيل بإجراء تغييرات على مستوى رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحافية ورؤساء تحريرها حلا مناسبا، بعد أن وصلت العلاقة بين العمال والصحافيين والمسؤولين في مؤسساتهم إلى طريق شبه مسدود، بسبب تراجع المستوى المهني والمادي.
وتعد دار الهلال من أقدم المؤسسات الصحافية العربية، وتأسست عام 1892 على يد اللبناني جورجي زيدان في مصر، وتقدم إصدارات عدة، منها مجلة الهلال، وهي من أقدم المجلات العربية التي تعمل في مجال الثقافة، فضلا عن مجلات: حواء، المصور، الكواكب، سمير، ميكي، طبيبك الخاص.
وكان من المقرر أن تشهد المؤسسات الحكومية المسؤولة عن إدارة ملف الإعلام في مصر تغييرات شاملة تطول المجلس الأعلى للإعلام والهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام، ورؤساء مجالس إدارات الصحف الحكومية ورؤساء تحريرها منذ شهر أغسطس الماضي بعد إقرار البرلمان للقوانين المنظمة لشؤون الإعلام، غير أن رغبة الحكومة في التمهل لاختيار كفاءات يمكنها التعامل بحرفية مع أزمات الإعلام تسببت في تأجيلها إلى ما بعد انتخابات نقيب الصحافيين وتغيير نصف أعضاء مجلس النقابة مطلع مارس المقبل.
ويرى مراقبون أن هناك رغبة في اختيار شخصيات تغلب عليها الكفاءة هذه المرة، وإن لم يتحقق فيها شرط الولاء التام، الذي كان أساسا في اختيار قيادات الصحف الحكومية في التغييرات التي جرت في السنوات السابقة.
وأشار بشير العدل، مقرر لجنة الدفاع عن استقلال الصحافة لـ”العرب” إلى أن تعديل أسلوب اختيار القيادات أحد الحلول التي يعول عليها العاملون في المؤسسات الصحافية الحكومية لتحسين أوضاعهم، بعد أن تفاقمت المشكلات الإدارية داخلها خلال العامين الماضيين، وعلى رأسها اختيار رؤساء مجالس إدارات تمتلك خبرات إدارية واسعة بديلا للتجربة الحالية التي اعتمدت على الصحافيين في مجال إدارة المؤسسات.
وتؤكد تقديرات الهيئة الوطنية للصحافة أن ديون المؤسسات الصحافية القومية شهدت ارتفاعا خلال العامين الماضيين، ووصلت إلى 20 مليار جنيه (مليار و100 مليون دولار تقريبا) مطلع العام الجاري بعد أن كانت 13 مليار جنيه (700 مليون دولار) عام 2017.
وأضاف العدل أن تظاهرات دار الهلال تعبر عن وصول الأزمة داخل الصحف الحكومية إلى مستوى غير مسبوق، كما أن الهتافات التي طالبت رئيس مجلس الإدارة مجدي سبلة بالرحيل من منصبه لم تكن معتادة، بالتالي فإن التعامل مع الأزمة بحاجة إلى أساليب حكيمة وشاملة على مستوى تعامل الحكومة مع المؤسسات الخاسرة وتحويلها إلى هيئات رابحة.
وتبحث الجهات التي تتولى ملف التغييرات الصحافية عن تحقيق معادلة صعبة للجمع بين اختيار قيادات قادرة على انتشال المؤسسات من كبوتها، وضمان الولاء، كما كان الوضع بالنسبة لقيادات جرى اختيارها من قبل، وهو أمر يدفع إلى التدقيق من قبل الجهات الحكومية في عملية الاختيار.
وعقد مصطفى مدبولي رئيس الحكومة اجتماعا مغلقا مع رؤساء مجالس إدارات الصحف القومية مؤخرا، تطرق إلى كيفية تطوير المحتوى التحريري الذي تقدمه، وكيفية تسويق المواقع الإلكترونية الخاصة بها وبحث إنشاء شبكة إخبارية تعبر عن جميع المؤسسات، وإيجاد حلول للتعامل مع مشكلات الديون واستغلال الأصول والتعرف على الهياكل التمويلية لتنشيط الصحافة عموما.
ويبدو أن الجهات المشرفة على إدارة المؤسسات وجدت أنه لا بد من اتخاذ حلول جذرية كفرصة للتعرف على مدى فاعلية وجودها من عدمه، قبل أن تضطر إلى دمج بعضها وإغلاق البعض الآخر، وأول هذه الحلول يرتبط ببحث تحمل الحكومة لديون هذه المؤسسات، وهو ما أعلن عنه هشام توفيق وزير قطاع الأعمال مؤخرا.
وأوضح توفيق في تصريحات صحافية أنه جرى تكليفه ببحث مديونيات المؤسسات، وعقد جلستين مع كرم جبر رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، لبحث المديونيات وتوفير حلول له، لافتا إلى أن بيع الصحف القومية أو ماسبيرو (مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري) غير وارد، والحكومة لا تتعامل مع المؤسسات القومية معاملة تجارية تسمح بالتخلص منها نتيجة تفاقم خسائرها.
وقال حسن عماد مكاوي، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، إن المأزق الحالي يرتبط بكيفية التخلص من الديون التي كان سبب تراكمها الفساد المالي والإداري الذي استمر لسنوات طويلة وغضت الحكومة بصرها عنه، وحل إسقاط الديون بشكل كامل هو الأصعب الذي سوف تضطر إليه في نهاية المطاف قبل أن تذهب باتجاه تحديث أسلوب العمل ليواكب التطورات التكنولوجية الحديثة.
وأضاف لـ”العرب” أن استمرار الحكومة في سياسة دعم الأجور من دون اختيار قيادات تستطيع تحديث المحتوى الإعلامي الذي تقدمه وهامش من الحرية لتستطيع جذب القراء، يؤدي إلى المزيد من تفجير الأوضاع في أوساط المؤسسات الصحافية، بما قد يصعب السيطرة عليها.
وأعلن عبدالمحسن سلامة، نقيب الصحافيين، تشكيل لجنة مكونة من أعضاء في الهيئة الوطنية للصحافة، ورؤساء مجالس إدارات الصحف القومية ورئاسة الوزراء، مهمتها البحث عن حلول عاجلة للخروج من الأزمة الحالية التي تواجهها الصحافة، بمختلف إصداراتها، حكومية وخاصة وحزبية، بعد ارتفاع سعر الورق وانخفاض التوزيع، واشتداد أزمة متأخرات العمال والصحافيين في المؤسسات الحكومية.