ضد التاريخ

في الأدب والفن لا تفضي المقدمات السليمة إلى نتائج بديهية دائما؛ لنأخذ مثلا فكرة أن للرسم قواعد تبدأ من إدراك المنظور إلى وعي أثر الضوء وتحولات الكتلة في المساحة، بيد أن مهارة استثنائية في تملك تلك القواعد لا تنتج بالضرورة فنانا كبيرا، يمكن أن يقدم لنا الحذق الأسلوبي عشرات الحرفيين الموهوبين ممن يجعلون المطابقة تشارف الإعجاز، لكنها لا ترتقي بالضرورة إلى أن تكون تحفة.
ذلك تحديدا ما يلفت الانتباه عند تقليب عشرات النصوص الروائية العربية اليوم، حيث أضحى استيعاب القواعد التخييلية، وإتقان المهارات السردية، ومن ثم تقديم حبكات حكائية مشوقة، تتجاوز رغبة الاختراق الأسلوبي، فصارت الحرفة لا تؤدي إلى إنتاج “الروائية”، وهو ما أفضى إلى أحكام نقدية ترى أن الروائي قد يكون شخصا محترفا وله قدرة على صناعة نصوص تتوفر على شروط الجودة ومن ثم يمكن أن تشهد رواجا في سوق القراءة، دون الشهادة بأنها ستدخل تاريخ الرواية أو حتى تاريخ الظواهر الروائية.
في هذا السياق تحديدا يمكن فهم تحول عشرات الأقلام إلى موظفين في هذه الكتابة الروائية، لهم مواعيد وبرامج عمل، وباحثون مساعدون، وجدول تحضيرات كتابية، قد تبدأ بتجميع الوثائق والصور ومختلف السجلات المتصلة بموضوع سردي، قبل التحول إلى صوغ خطاطة حكائية تصل بين مجمل التفاصيل الوثائقية تلك بخيط درامي يغري القارئ بالمتابعة.
من هنا يمكن فهم تلك السيطرة المتفاقمة اليوم لمرتكز “التاريخ” على جوهر الرواية، وما يرتبط به من معارف وحقول ومرجعيات وأعلام، قد تبدأ بكتب الأخبار والتراجم ولا تنتهي بالتحليلات السياسية والإثنية لتحولات الأمصار والأنظمة والشعوب والعادات الاجتماعية والمعتقدات الدينية.
وهو ما قد يدفعك عزيزي القارئ إلى الإحساس أحيانا بأن الرواية عدو للتاريخ، وأن التاريخ مناقض للتخييل الروائي. فنحن لا نكتب بالحقائق وإنما بالأوهام والتهيؤات والأكاذيب… ولذلك يحتاج الروائي إلى قدر جمّ من التواضع حتى لا يدعي تملك الماضي، أو استعادة الذاكرة، أو الفصل في السجلات التاريخية، أو إعادة الاعتبار لأفكار وأعلام وأقوام وجغرافيات وألسنة.
تحس بعد كل هذا أن الروائي لا يحتاج إلى حشر نصوصه بمئات الصفحات المنقولة من المدونات القديمة والحديثة، بقدر ما هو محتاج إلى موهبة في التخلص من ثقلها، وابتداع أكوان وشخصيات وحوارات نشتهي أن نقلدها، وأن نعيشها، وأن ننتمي إلى ملكوتها، أو على الأقل أن نتعلم منها أن الفن وجد لنسيان ما جرى، وللتخلص من بلادة الحس اليومي، وأن يكون فقها جليلا للحياة.