مجرمون لكنهم "نبلاء": تحول مجتمعي خطير في صورة البطل العربي

"عدو عدوي، حبيبي".. الثقافة الشعبية تتغذى بتحفيز العامة على محاباة القتلة والمجرمين.
السبت 2019/01/05
غرافيتي لسامبو (أحد البلطجية الذين يحترفون العنف كأسلوب حياة) على مدخل شارع محمد محمود

بالغت وسائل الإعلام المصرية مؤخرا في الاهتمام بشخص يدعى كمال ثابت، جرى إطلاق سراحه بعد حوالي نصف قرن أمضاه في السجن، جراء ارتكابه أعمال قتل وعنف، وتعاملت مع الرجل وكأنه بطل حقق إنجازا أولمبيا، أو تخلص من مجرمين عتاة. وفي ذروة الاهتمام وتكثيف الأضواء تاهت بعض الحقائق، وأهمها أنه مجرم وعوقب بسبب عنفه المجتمعي، فكيف أصبح المجرم بطلا، وما هي دوافع الاحتفاء الذي يؤثر على وجدان وعقل المجتمع، ويمنح الرجل شرفا لا يستحقه؟

القاهرة - تمتلئ ذاكرة التاريخ العربي بعشرات الشخصيات التي تتغنى بها وتمجدها الحكايات الشعبية، مثل أدهم الشرقاوي وأحمد الدنف وعلي الزيبق، وهم في الأصل من اللصوص والمجرمين. ويربط بعض الخبراء بين ظاهرة الصعود الشعبي لهؤلاء وتحولهم إلى أساطير لكونها سمة بشرية، لها جذور رجعية، وتبحث عن كل ما هو معاد لنظم الحكم الباطشة بشعوبها، وإن كانت من خارجين عن القانون، لتصبح عادة مجتمعية عربية.

وأعادت الإشكالية التي فرضتها مجموعة من الكتب العربية صدرت حديثا وتبحث في مدى زيف الحكايات الشعبية المتوارثة وصناعة الأبطال الشعبيين، وهم في الأصل قتلة ولصوص، التساؤل حول أسباب عجز المُجتمعات العربية عن رؤية القبح على أنه قبح فعلي.

أشرف منصور: هناك اهتمام أكبر في العالم العربي بالخارجين عن النظام العام
أشرف منصور: هناك اهتمام أكبر في العالم العربي بالخارجين عن النظام العام

ومن أشهر الأعمال التي تطرقت إلى هذه القضية مؤخرا، “دم المماليك” لوليد فكري و”ترجمة في التاريخ المزيف” لإبراهيم عدنان و”لحظة تاريخ.. 30 حكاية من الزمن العربي” للأديب محمد منسي قنديل.

ودارت العشرات من الأسئلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والندوات الثقافية باحثة عن أسباب تحول اللصوص إلى أساطير، والسر في تخليد التراث الشعبي لقُطاع طرق وفتوات ومحتالين ورجال عُنف، بل ونسج القصص الخيالية حولهم، وربط بعض النقاد بين تلك الجذور، وما هو مطروح اليوم من قضايا عنف وتطرف وتخريب، باعتبارها مُحفزات اجتماعية لتفريخ أجيال من القتلة والإرهابيين دون اعتبار للوم مُجتمعي أو رفض مُحيط.

إذا كانت الثقافة العربية لكل بلد تحتفي بأبطالها الشعبيين، بخلاف الأبطال الوطنيين المعلنين على الجانب الرسمي، فإن البحث التاريخي الموضوعي يكشف أن معظم نماذج البطولات الرائجة من المُجرمين.

ورغم إصرار الروايات الرسمية في البلدان العربية على إدانة أشهر نماذج الإجرام لديها، فإنها لم تنسحب على النظرات الشعبية تجاه النماذج نفسها.

والأخطر أن الأدب والفن، سواء السينمائي أو المسرحي، اتجها بقوة إلى “أسطرة” المجرمين وطرحهم للجمهور على أنهم نماذج عظيمة تُحتذى وتُتبع.

ويشير البعض إلى أن أدباء كبار سعوا إلى ذلك تماشيا مع المزاج الشعبي، مثلما قام به الأديب نجيب محفوظ حيث خلد آثارهم ضمن قصص وحكايات الفتوات في “الحرافيش”، وصوّر سفاحا حقيقيا اسمه محمود سليمان اشتهر خلال الستينات في رواية “اللص والكلاب” على أنه بطل أسطوري وضحية للغدر والخيانة.

شهامة كاذبة

شاعت الظاهرة في دول عربية كثيرة مُنذ عقود، ما دفع أشرف منصور أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية إلى القول لـ”العرب”، “تغلغل هذه السمة في المُجتمع العربي ساهم في انتعاش الإرهاب”.

وتبدو المُشكلة واضحة عندما نتتبع الكثير من الأشقياء الذين تحولوا إلى نُبلاء في ظل ماكينة التراث الشعبي غير المُلتزمة بمنهج ما.

يكشف محمد رجب النجار في كتابه “الشطار والعيارين” حكايات من التراث الشعبي الصادر عن سلسلة “كتاب المعرفة” بالكويت عام 1981، أن الخارجين عن القانون يحظون لأمر ما بإعجاب العامة في عصرهم، ويتعاطفون معهم ويشيدون بأفعالهم، ولأمر ما تُؤثر عن هؤلاء نوادر وحكايات وبطولات وهي محط مبالغة وتضخيم.

واشتهر في التراث العربي الكثير من اللصوص “العظام” الذين أحبهم العامة ونشروا عنهم الأعمال الخارقة. ومن هؤلاء، لص بغداد الشهير بابن حمدي، وتسميه بعض القصص الأخرى بأحمد الدنف، ويحكى عنه أنه كان إذا قطع الطريق لا يتعرض لأصحاب البضائع البسيطة أو المتواضعة وكان رحيما بهم.

كما اشتهر من اللصوص علي الزيبق الذي يقال إنه عاش في بغداد زمن الخلافة العباسية وأحبه الناس باعتباره بطلا، لكن الغريب أن القصاص الشعبي المصري قدم قصته وكأنه عاش في مصر.

وكان من اللصوص الخالدين عمران بن شاهين أمير اللصوص بالبطائح بين واسط والبصرة في زمن البويهيين، ومنهم أيضا ابن مروان، وابن فولاذ.

بخلاف هؤلاء عرف كل بلد عربي عددا من الأبطال هم في الأصل من المُجرمين نتيجة الاحتفاء الشعبي والقصص الخيالية.

ناصر عراق: إذا تعذر أو تأخر ظهور المنقذ، اخترع الناس بطلا من الخيال
ناصر عراق: إذا تعذر أو تأخر ظهور المنقذ، اخترع الناس بطلا من الخيال

وأكد أشرف منصور أن هذا الأمر يستدعي بحثا عميقا في خصائص الشعوب، موضحا أن هُناك اهتماما أكبر لدى العالم العربي بمُخترقي النُظم والخارجين عن النظام العام، خاصة إذا كانوا يتصفون بالقوة الجسدية والإقدام.

ويرى البعض من الخبراء أنه لا يمكن حصر الإعجاب الشعبي باللص والمجرم عند العرب وحدهم، لكن هذه الظاهرة سمة أكثر شمولية، فهي لدى جميع البشر وفي مختلف الحضارات، مثل الفلاح السارق “ست أبا” في العصر الفرعوني، وروبن هود في العصور الوسطى بأوروبا.

وأوضح منصور لـ”العرب”، أن العالم الغربي ينجذب نحو الشخصيات الخيالية الخارجة عن القانون، مثل أرسين لوبين، وهو لص في حقيقته إنسان سيء ومؤذ.

ولم يتوقف إعجاب الإنسان بغيره من الأشرار، الذي يرى في طيات أعمالهم الإجرامية خيرا إلى حدّ الآن، رغم التطورات التي يعيشها الإنسان، ووصل البعض باعتبار شخصية الموظف الأميركي إدوارد سنودن، الذي سرق ملفات سرية من وكالة الاستخبارات الأميركية، وقام بفضحها عام 2013، واحدا من هؤلاء اللصوص الذين يناصرون الغلابة.

وفي مصر يوجد موال شهير يُردده الناس مُنذ قرابة المئة عام يقول “يا بهية وخبريني يا بوي على اللي قتل ياسين”، ويتحسر الموال على الرجل الشهم البطل الذي نُسجت حوله بطولات خارقة دفاعا عن حبيبته بهية، وفي أقوال أخرى إن بهية رمز لمصر وياسين الفارس الذي يحميها، ما دفع الكثير من الشعراء إلى تقديمه باعتباره نموذجا للشرف والوطنية، وتزخر به الدواوين الشعرية والأغاني المصرية.

المُثير في الأمر أن ياسين صاحب الموال المذكور لم يكُن سوى قاطع طريق، شقي، يُثير الرعب والفزع في جنوب مصر، وكانت له عشيقته بهية تعمل راقصة، وقُتل، بحسب مذكرات اللواء محمد صالح حرب، بعد سلسلة مذابح نفذها ضد عابري الطرق بواسطة فرقة عسكرية مصرية يقودها صالح حرب نفسه في بدايات القرن العشرين.

ومما ذكره صاحب المذكرات، الذي تولى وزارة الحربية المصرية خلال الفترة من عام 1939 إلى 1940 أن عشيقته بهية أخذت تُزغرد بعد قتله فرحا، لما لاقته منه من عسف.

لا يُضاهي ياسين، كنموذج للشجاعة والشهامة الكاذبة في الذاكرة الشعبية المصرية، إلا أدهم الشرقاوي، الذي صوره الخيال الشعبي كبطل واجه الاحتلال الإنكليزي لمصر، ومازالت مواويل بطولاته تُكرر حتى يومنا خلال الموالد الشعبية في القُرى والنجوع.

غير أنه من الغريب أن تُشير بيانات متحف الشرطة المصرية بقلعة محمد علي بالقاهرة، إلى أن أدهم الشرقاوي كان قاطع طريق، يقوم بالإغارة على الناس وترويعهم، وسلب ما لديهم، وفرض الإتاوات عليهم، وقُتل أثناء تبادل لإطلاق النار مع الشرطة في أكتوبر من عام 1921.

هناك الكثير من الشخصيات في الثقافة الشعبية المصرية، تحولوا من لصوص وقتلة إلى نماذج محبوبة، رُبما مثل “الفتوة” حميدو في الإسكندرية، وخُط الصعيد.

عصابات وطنية

الالتفاف حول شخصية البلطجي التي قدمها محمد رمضان يفسر بأنه اعتياد على مشاهد العنف في المجتمع
الالتفاف حول شخصية البلطجي التي قدمها محمد رمضان يفسر بأنه اعتياد على مشاهد العنف في المجتمع

في التراث الفلسطيني ثمة حكايات مشابهة عن بطلين اسمهما “أبوجلدة” و”العراميط”، وهما من الشخصيات الشعبية، واعتبرهما التراث من المُجاهدين ضد الإنكليز، حتى شاعت مقولة شعبية تقول “أبوجلدة والعراميط، ياما كسروا برانيط”، ما يعني أنهما قهروا المحتلين الأجانب.

وشاع أنهما كونا عصابة لسرقة الجيش المُحتل خلال ثلاثينات القرن العشرين، ما دفع التراث الشعبي لتأليف أغان عديدة عن بطولاتهما. ويكشف كتاب عنهما وضعه الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد أن عصابة “أبوجلدة” و”العراميط” لم تكتف بسرقة الإنكليز، إنما امتد عملهما إلى نهب الإقطاعيين والأثرياء التابعين للدولة العثمانية. ورغم نهاية قصتهما بما يشبه نهاية أدهم الشرقاوي وياسين، وقبض عليهما ونُفذ فيهما حكم الإعدام، إلا أن الناس أبت وصفهما باللصوص، ونسج الخيال الفلسطيني عنهما حكايات أسطورية.

تتباين تفسيرات تعظيم المُجرمين في ثقافات الشعوب من بلد لآخر، غير أن البعض يُفسر الأمر بأن الشعوب، خاصة العربية، ترفض الرواية الرسمية حول مشاهير الإجرام بسبب عدم ثقتها في الكلام الصادر عن السلطة.

تبدو أي حكاية مُعاكسة للحكاية الرسمية أكثر قبولا من الحكايات الرسمية، حتى لو كانت غير منطقية. فالجمهور في هذه الحالة لا يتعامل مع المنطق والعقل بقدر ما يتعامل مع فكرة “عدو عدوي، حبيبي”، ما يعني أن الجانب الآخر المعادي للسلطة التي يكن لها كراهية، على صواب، وبطلا قوميا.

يقول الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد لـ”العرب”، إن تعظيم البعض لتلك النماذج العنيفة أو الخارجة عن القانون، في مصر مثلا، يرجع إلى كونها دولة مركزية مُنذ القدم، ما يعني أن سُلطة الحكومة غاشمة، لذا يتعاطف الناس مع مَن دوخوا تلك السلطة ولو كانوا مُجرمين. ومع أن السلطة تشوه مُعارضيها في نظر العامة، فإنها فشلت في تأكيد الحقيقة بشأن المجرمين لأن الشعب يجد فيهم الملاذ نكاية في السلطة.

وفي المُجمل، كان انتشار المظالم وتفشي الجور في التاريخ العربي، سببا مُباشرا لإنكار اتهامات السُلطة ضد المُجرمين، بغض النظر عن إجرامهم.

ويعتقد البعض من المُثقفين العرب، أن تغلغل الفكر الجاهلي أدى إلى استبعاد الشعوب لأي مناهج موضوعية لتعظيم شخصية ما أو إدانة شخصية أخرى.

وتقول راضية طاهر مُدرسة النقد الأدبي بجامعة باجي مُختار في مدينة عنابة الجزائرية، شرق الجزائر لـ”العرب”، إن السبب الرئيسي في جعل المجرمين أبطالا هو استمرار نمو الفكر القائم على تمجيد الحرب لا السلم.

ورغم عصور الإسلام، فإن مفاهيم الجاهلية مازالت تؤطر الثقافة العربية حتى اليوم، على حد قولها، وليس أدل على ذلك أن نحتفي بأشعار عمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، وامرئ القيس التي تُمجد الثأر والقتل.

وتضيف طاهر أن الاستبداد السياسي الذي شاع في التاريخ العربي لقرون طويلة، ساعد على النظر إلى القتلة والمجرمين على أنهم أبطال، وكل مُتحدّ للسلطة بطل، وكل سارق للأثرياء صديق للشعب.

يؤكد الروائي المصري ناصر عراق لـ”العرب”، أنه بنظرة سريعة إلى التاريخ الإنساني المعروف نكتشف أن الشعوب في حاجة دوما إلى أبطال يحققون لهم ما يتمنونه، وكلما زاد الظلم وغابت العدالة اشتعل الشوق لوجود بطل ينقذهم من الظلم، ويعيد لهم فضيلة العدل المجتمعي الضائع.

ويشدد عراق على أنه إذا تعذر أو تأخر ظهور المنقذ، اخترع الناس بطلا من الخيال يمنحهم قبسات من نور الأمل.

الشعوب في حاجة دوما إلى أبطال يحققون لهم ما يتمنونه
الشعوب في حاجة دوما إلى أبطال يحققون لهم ما يتمنونه

ولأنه لا يوجد خيال ينبثق من العدم، فإن الناس يلجأون إلى إضفاء هالة من البطولة المجتمعية على من يبطش بالذي يظلمهم، حتى لو كان سلوك هذا (البطل) يتسم بالإجرام.

ويُلقى الكثير من اللوم على الأدب والفن والتاريخ لأنها أحيانا تلعب دورا مقصودا في قلب الحقائق. وأعاد البعض من الأدباء عرض شخصيات شهيرة، في محاولات لتقديمها بشكل مُحبب، ما دفع بالجمهور، وهو بعيد بطبيعة الحال عن الثقافة العميقة، إلى اعتماد ما ذكره العمل الأدبي أو الفني أنه حقيقة.

هناك مَن يرى أن بعض الحكومات لعبت دورا في توجيه اهتمام الجمهور نحو الشخصيات الممارسة للعنف في ظل تحفيزها بعد حركات الاستقلال الوطني، غير أن ذلك النهج استمر على مستوى المؤسسات، ما دفع بوزارات التعليم إلى تدريس قصص خالد بن الوليد وعقبة بن نافع والقادة العسكريين وشجعان الحروب باعتبارهم شخصيات مثالية.

ويساهم تمجيد المُجرمين في تهيئة المناخ لشيوع ثقافة العنف، ما يفسر نجاح أفلام شركة إنتاج “السُبكي” المصرية في الآونة الأخيرة، والتي تُكرر ثيمة العنف والقوة الخارقة والثأر كمنطق عام.  ويمكن تفسير التفاف قطاع عريض من الشباب حول شخصية “البلطجي” التي قدمها الفنان المصري محمد رمضان في أفلامه ومسلسلاته بأسماء متنوعة، بتحوّل مجتمعي خطير لصورة وهيئة البطل العربي.

يقول هاني صبري مُدرس علم الاجتماع بجامعة قناة السويس، في شرق القاهرة، إن صناعة أبطال خارجين عن القانون يساعد على الترويج لسمات الجنوح إلى ترويع الناس باعتباره من أفعال البطولة.

ويوضح لـ”العرب”، أن جانبا كبيرا من سمات العنف المُنزرعة في المجتمع تعود إلى الثقافات الشعبية السائدة، والتي تُمجد فعل القتل باعتباره عملا بطوليا، وتُعيد تسمية أعمال السرقة والبلطجة على أنها رد للحقوق.

ويشير صبري إلى أن هناك حاجة ماسة لقيام المؤسسات المعنية بالثقافة في العالم العربي بمراجعة التراث الشعبي في كل بلد والعمل على تشجيع مبادرات لتصحيح التاريخ والالتفات لحكايات أخرى بشأن نماذج جديدة مبهرة في العلم والفكر والإبداع.

20