"مهرجان المسرح العربي" يخوض امتحان التجديد وقبول الآخر

مهرجان المسرح العربي بالقاهرة يوسّع رؤيته صوب آفاق أعلى وأبعد تتعلق ببناء الوعي في المجتمعات العربية ودفعها إلى التفاعل الحي مع شركاء الإنسانية.
الجمعة 2019/01/04
المسرح يكشف الطريق إلى الحرية

لا يزال المسرح محتفظا بمكانته، لطبيعته الخاصة كفن عريق ضارب في القدم، وهاضم للألوان الإبداعية المختلفة، ومنفتح على الجمهور بشكل مباشر من غير حواجز. لذلك، يتجلى تفوق المسرح يوما بعد يوم، وينعقد الرهان على إمكاناته ليكون فن الناس المعبّر عن قضاياهم المصيرية ومشكلاتهم الملحّة في المجتمعات العربية المأزومة والمنتهكة والمحاصَرة.

القاهرة - يسعى فن المسرح إلى مواصلة قيادته قاطرة الثقافة العربية في بدايات العام الجديد، مثلما كان حاله خلال العام الماضي الذي تسيّد فيه المشهد المصري والعربي مغردا خارج السرب بجرأته ودعوته إلى التطور والتغيير والحرية، ويواجه “أبوالفنون” امتحانا حقيقيا في “مهرجان المسرح العربي” الذي ينطلق بعد أيام قليلة في القاهرة حاملا جملة من الطموحات الفنية والأهداف المجتمعية.

الدورة الأضخم

وسط رياح التحديات الآتية من كل حدب وصوب، يسعى “مهرجان المسرح العربي” بالقاهرة، الذي ينتظم من 10 إلى 16 يناير الجاري، إلى قول كلمته الفنية من خلال التجديد والتجدد في عروضه المتعددة واستحداث التقنيات الجمالية، كما يوسّع المهرجان رؤيته صوب آفاق أعلى وأبعد تتعلق ببناء الوعي في المجتمعات العربية ودفعها إلى التفاعل الحي مع شركاء الإنسانية.

تأتي الدورة الـ11 للمهرجان بطبيعة استثنائية، فهي الدورة الأكبر في مسيرة المهرجان على الصعيد الكمي، إذ تتضمن 27 عرضا بمشاركة 650 فنانا مسرحيا من مصر ودول عربية وأجنبية، منها تونس والمغرب والإمارات وفرنسا.

وتلقى مظلة رسمية داعمة على نحو لافت، وتنعقد برعاية الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وإشراف الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة، الرئيس الأعلى للهيئة العربية للمسرح، وتشترك في تنظيمها الهيئة العربية للمسرح ووزارة الثقافة المصرية، وتستضيفها أبرز المسارح المصرية.

وتكتسب هذه الدورة فرادتها وخصوصيتها من الجانب الكيفي الأدائي، فهي متعددة المرامي والتوجهات، بما يجعلها في موضع اختبار حقيقي في مهب التحديات، ويناط بها النهوض الفني من جهة وفق شعار المهرجان “نحو مسرح عربي جديد ومتجدد”، بالإضافة إلى النهوض المجتمعي من جهة أخرى “لنجعل المسرح مدرسة للأخلاق والحرية”.

فعل جماعي

يستغل فن المسرح معطياته الكثيرة، وعلى رأسها أنه فعل جماعي، ليتمكن من القيام بدور حقيقي في التأثير والتغيير، وقيادة قاطرة الثقافة كقوة ناعمة رفيعة قادرة على إحداث حراك مجتمعي. لذلك، فإنه إلى جانب التشويق والجاذبية والإمتاع والإبهار والعناصر الجمالية والفنية اللازمة لنجاح عروض المهرجان، يبدو طريق التميز مرهونا بقدرة المهرجان على قراءة الواقع بأحداثه اللاهثة الطاحنة، واستيعاب نبض الشعوب، بآمالها وآلامها.

بالتزامن مع اليوم العربي للمسرح في 10 يناير، يفتح المهرجان ذراعيه في القاهرة مطلقا رسائله التي يسعى من خلالها إلى حل المعادلة الصعبة، بإرضاء الذائقة المتعطشة للفن المجرد، وبلوغ غايات أخرى قيمية ومفاهيمية بأساليب تحفيزية غير مباشرة قائمة على الترميز واستثارة الخيال واستنهاض التأمل والتفكير.

مهرجان المسرح العربي 2019، دعوة جديدة إلى الجنون والتمرد والانفلات من الأسر، بالإبحار بزوارق الفن

ويمكن أن ينطوي شعار “مسرح جديد ومتجدد” على أبجديات ممارسة المسرح دوره الطبيعي الطليعي لتعميق التنمية الثقافية بمعناها الواسع، وترقية المجتمعات معرفيا وشعوريا، والإسهام في تنشئة أجيال قادرة على التواصل وبناء العلاقات وقبول الآخر والانفتاح على الحضارات الإنسانية.

يأتي سؤال الحرية الأصعب في امتحان مهرجان المسرح العربي، فهو سؤال مركب، فالتحرر من القوالب المسرحية الجاهزة والأفكار النمطية والآليات المكرورة مطلوب بالضرورة، خصوصا مع اتكاء الفن المسرحي الحديث على الفانتازيا والحلم واندماج الفنون البصرية والتكنولوجيا فائقة التطور في الصوت والإضاءة والسينوغرافيا وغيرها.

التحرر منشود كذلك على مستوى المضمون المسرحي نفسه، بمعنى أنه لا ينبغي وجود محاذير وخطوط حمراء، فمقص الرقيب يعني ببساطة اغتيال المسرح، والمحن التي تواجهها الشعوب العربية على وجه الخصوص لا مجال للمواربة في معالجتها، فمصداقية المسرح مقترنة باقتحامه وجرأته وتمرده، وقدرته على تعرية السلبيات بكل ما فيها من قسوة، أملا في مداواتها وتجاوزها.

كتب المسرح العربي شهادة نجاحه في الفترة الماضية من خلال خوضه غمار قضايا شائكة، سياسية ومجتمعية، منها مآسي الحروب والنزاعات العسكرية وتداعيات الثورات وغياب الديمقراطية والتعددية وتضاؤل هامش الحريات وانتشار القهر والتمييز والفقر والبطالة والمحسوبية واتساع الهوة بين الطبقات وفساد التعليم وتغوّل المادية والتسليع والاغتراب عن الواقع سواء بالانكفاء على الذات أو بالانخراط في العالم الافتراضي والسوشيال ميديا، واتجاه الكثيرين إلى رفض حياتهم المأساوية بالتقوقع والعزلة أو بالهجرة إلى الخارج، وغيرها من الإشكالات المحورية التي تعمّق المسرح في رصدها وتحليلها.

مدارس متنوعة

يبقى نجاح مهرجان المسرح العربي معلقا بمقدار احتضان عروضه مثل هذه القضايا المصيرية وغيرها، وأيضا بمقدار تمكنه وفق رغبة مسؤوليه من الانطلاق فنيا إلى آفاق دولية يقول من خلالها كلمته، ويتبادل فيها الثقافة والمعارف مع الآخرين بجسارة، ويرسم صورة تليق بالمنتج الثقافي العربي، المتفاعل مع العطاء الإنساني في سائر الأنحاء.

تتسم الدورة الحادية عشرة من مهرجان المسرح العربي بزخم كبير، يتجلى من خلال برنامجها المعلن، وحققت بعض مسرحياتها صدى طيبا في عروض أولية وتجريبية، الأمر الذي يزيد فرصة المهرجان في دعم الحركة المسرحية الحديثة بمصر والعالم العربي. وينفتح المهرجان كذلك على عروض أجنبية من مدارس متنوعة، في الصين وفرنسا وألمانيا واليابان، بما يعمق الرؤية ويثري الأداء.

المهرجان يسعى إلى قول كلمته الفنية من خلال التجديد والتجدد في عروضه المتعددة واستحداث التقنيات الجمالية

تأتي عروض المهرجان، الذي أعلن انحيازه للمسرح المسكون بالتمرد، المنخرط في الهم الإنساني، منقسمة إلى ثلاثة مسارات: العروض التي اجتازت التنافس، والعروض المتنافسة في المرحلة النهائية من جائزة سلطان القاسمي، والعروض المختارة من جانب وزارة الثقافة.

من بين العروض المصرية المشاركة نجد مسرحيات “مسافر ليل”، “الطوق والإسورة”، “محطة مصر”، “شباك مكسور”، ومن العروض العربية: “المجنون” (الإمارات)، “ذاكرة قصيرة” (تونس)، “شابكة” (المغرب)، “الرحمة” (الكويت)، “نساء بلا ملامح” (الأردن)، “تقاسيم على الحياة” (العراق)، وغيرها.

وتنفتح العروض المشاركة على أوجاع المجتمع، فعرض “الطوق والإسورة” على سبيل المثال، عن رواية الكاتب يحيى الطاهر عبدالله، يتقصى معاناة الفقراء والمحرومين في القرى البائسة في صعيد مصر، حيث تسود الخرافات والأساطير الشعبية. ويطرح عرض “مسافر ليل”، عن مسرحية الشاعر صلاح عبدالصبور، تعرض البشر للقهر والانصياع للسلطة الظالمة في كوميديا سوداء.

مهرجان المسرح العربي 2019، دعوة جديدة إلى الجنون والتمرد والانفلات من الأسر، بالإبحار بزوارق الفن إلى جزر غير مأهولة، تستكشف فيها الإنسانية أوراقها المطوية والمنسية.

15