صورة المثقف عراقياً

النمطية المكرّرة أحد مظاهر التأثر بالآخر، وإحدى نقاط الضعف في السردية العراقية التي سارت في هذا المسار أشواطاً طويلة.
الخميس 2019/01/03
الكاتب علي بدر من الجيل الأحدث الذي استوعب الدرس السياسي والثقافي والاجتماعي

منذ بواكير قراءاتنا وحتى اليوم تطالعنا شخصية المثقف العراقي في السرديات المختلفة التي كتبتها أجيال روائية متعاقبة على مدار نصف قرن، كشخصية ثابتة تقريبا.لا تتغير صفاتها ولا مواصفاتها ولا حتى أحلامها، مثلما لا تتغير أمكنة نشاطاتها اليومية/ المقهى/ المكتبة / البار.. وغيرها من الأمكنة التي حفلت بها الرواية العراقية في تشابُه غريب إلى حدّ بعيد، وشواخص الأمثلة كثيرة بدءاً من الشخصيات الروائية الستينية، عبدالرحمن مجيد الربيعي مثالاً، التي افترعها المثقف وحتى شخصية المثقف الجديد، في روايات علي بدر مثلاً، وهو من الجيل الأحدث الذي استوعب الدرس السياسي والثقافي والاجتماعي إلى حدّ كبير، لكنه لم يستطع أن يخرج عن هذا التنميط لشخصية المثقف العراقي ودوره في الحياة العامة، وكأنما شخصية المثقف الروائية هي شخصية ثابتة مقرونة ببصمة البقاء الأبدي في طبيعتها وأخلاقياتها وتصوّراتها المثالية للعالم الخارجي والداخلي.

وحتى الأمثلة الأخرى الكثيرة التي يعرفها القارئ لم تستطع أن تتخلّى عن سمات المثقف المفترض/ السياسي/ الثوري/ الحالم بشعارات التغيير الرومانسية/ المتعالي نسبيا على المجتمع/ القارئ المتحوّل إلى ثقافات أخرى. لذلك يرى كثيرون أن النمطية داءٌ أصاب السردية العراقية من بواكيرها الأولى ولم تتخلّص منه الأجيال التي جاءت بعدها، بسبب التوثيق غير الدقيق لمثل هذه الشخصية التي كانت تُعد استثنائية في المجتمع، نظراً إلى ما تحمله من سمات ثورية، رومانسية على الأكثر، أو كما ضخمته الروايات التي كان كتّابها يحملون مثل هذه السمات الداخلية في رؤياهم للواقع الاجتماعي ومن ثمّ السياسي وبالتالي الثقافي بشكل عام، منظوراً إليه من هذه الزاوية التي حرص الروائيون السابقون واللاحقون على تكريسها كنمط روائي يحمل نفس الجينات الوراثية التي حملوها من خمسينات القرن الماضي أو ستيناته.

ولأن مثل هذه “الثورية” الروائية لنمطية المثقف استحوذت على جيل الستينات على الأغلب الأعمّ فإن تداولها بقي حتى السبعينات بحساسية عالية حينما تحول الوسط الثقافي إلى وسط سياسي بالرغم منه، وبقيت هذه النمطية سائدة إلى حد ما لكن مع تشذيبها القسري لتكون شخصية أخرى لا تشبه الشخصية الثقافية الستينية الممتلئة بحلم الثورة والتغيير والرومانسيات المجانية الخفيفة، إنما حاولت السلطة أن تكرّس مفهوم هذه الشخصية بوصفها الأيديولوجي الجديد، بعيداً عن لغة الحلم والمثالية التي كانت سائدة قبلها، وبالتالي تم تهشيم أو تقزيم شخصية المثقف الثوري الحالم في محاولة لإبعاده عن نمطية الثورة التي نجدها في كتابات سردية متواترة سبقت الساحة السبعينية، لكن السلطة السياسية وهي التي استحوذت إلى حد كبير على قلم الكاتب أجهضت مثل هذا الحلم الرومانسي الذي ساد في كتابات سابقة وحوّلته إلى بضاعة أدبية نعتقد أنها كانت بضاعة غير مفيدة كثيراً، لا تاريخيّا ولا واقعيّا، وبالتالي انسحب كثير من السرديين عن تناول هذه “الظاهرة” النمطية التي وضعت السياسة لها حداً لأسباب مدروسة ومفهومة آنذاك.

لكن هذا لم يمنع البعض من العودة إلى نمطية المثقف/ الثوري/ الرومانسي/ الحالم/ وبالأمكنة ذاتها البار، المكتبة، الجامعة، المقهى، وهي أمكنة ثابتة في الرواية العراقية التي تناولت مثل هذه الشخصيات التي أفلت الآن إلى حد كبير. ولم يمنع البعض من تناول الظاهرة بالنقد والتحليل رجوعاً إلى زمنها بل والتهكّم عليها إذا اقتضت الضرورة السردية قي واقعيتها، انطلاقاً من معاينة زمنها السياسي على الأرجح الذي سادت فيه هذه الشخصية المثقلة كثيراً بالأحلام والمثالية الثورية.

النمطية المكرّرة أحد مظاهر التأثر بالآخر. وإحدى نقاط الضعف في السردية العراقية التي سارت في هذا المسار أشواطاً طويلة.

14