"مرسم الأنوار" عروض فرجة تجمع بين الصوت والضوء

من الأحداث الثقافية البارزة في باريس افتتاح أول مركز فني رقمي، أطلق عليه اسم “مرسم الأنوار”، يقترح أسلوبا حديثا في عرض الأعمال الفنية يعتمد على التكنولوجيا الرقمية. وقد استهل نشاطه ببعض رموز الفن النمساوي وهم كليمت، وشيله، وفريدنسرايخ هندرتفاسر.
عندما يقف الزائر أمام عمارة بشارع سان مور في قلب الدائرة الحادية عشرة بباريس، لا يتخيل أنها تخفي في جوفها مركزا فنيا متطورا، وضع التكنولوجيا في خدمة التقاليد الفنية، بتحويل الآثار التشكيلية الكلاسيكية إلى صور مبثوثة بأحجام مضخمة في فضاء شاسع. هذا الفضاء الذي تقدر مساحته بأكثر من ألفي متر مربع ويبلغ ارتفاعه عشرة أمتار كان مصنعا لسِباكة المعادن في القرن التاسع عشر، ثم تحول إلى مخزن، دون أن يفقد معالمه المعمارية، قبل أن يحوله فريق “الفضاءات الثقافية” الذي يتولى الإشراف على عدة متاحف مثل جاكمار أندري، ومايول بباريس وخاصة مقاطع الأنوار في بودو بروفانس بمحافظة بوش دو رون التي أخذ عنها المشرفون تصورا يقوم على عروض فرجة تجمع بين الصوت والضوء، وتحول أعمال كبار الفنانين رقميا ثم تبثها على الجدران والأرضية والأعمدة. والمنطلق كما بين ميكائيل كوزيغو مدير المركز أن الصورة هي تجربة فنية بصرية، فإذا ما أضيفت إليها الموسيقى ولدت لدى المتفرج شعورا لا يعتريه لو اكتفى بتأمل الأثر الفني وحده.
وتعتمد التقنية التي يتوخاها المدير الفني جانفرانكو يانوتسي على تخير أعمال الفنان لوضعها في حركية عن طريق مزج الألوان بشكل متسلسل واستعمال تقنية الزوم، مع المحافظة على الألوان والمقاسات الأصلية للوحات. تلي ذلك عملية تجريب على عين المكان لتعديل كل صورة في أدق بِكْسل. أي أنها عملية تكنولوجية ضخمة يقع التحكم فيها بواسطة الكمبيوتر، وتخزينها في عدة محركات أقراص صلبة. وبذلك يتحول الفضاء في بضع ثوان، واضعا الزائر في صميم العمل وفي ذهن مُنشئه، إذ إن كل جدار أو عمود، فضلا عن الأرضية، يغطيه مسلاط vidéoprojecteur من جملة مئة وأربعين موزعة في كافة أنحاء الفضاء، ما يجعل الصور تتنقل في انسجام تام مع تهيئة المكان، مصحوبة بأنغام موسيقية مناسبة، في نظام صوتي فضائي تنظمه خمسون جهازا من أجهزة تكبير صوت فرعية مثبتة على الجدران أو موضوعة على الأرض، يمكن التحكم في كل واحدة منها على حدة، ما يسمح بتوجيه الصوت من مكان إلى آخر، وتدويره في كامل الفضاء، وكأن ثمة ريحا تنقل ذلك الصوت في فضاء طبيعي.
والغاية كما يقول مدير الفضاء هي تشريك الزائر بطريقة تفاعلية حتى لا يقتصر حضوره على المشاهدة، بل يتعداها إلى الانغماس في عالم من الألوان والأنوار والأنغام. ولهذا الغرض، تم إعداد ورشة جانبية تمكّن الهواة من الاستئناس بتقنيات تأليف عمل رقمي خاص بهم انطلاقا من لوحات فنية، وبثه على موقع المركز.
وبعد أشغال دامت أربع سنوات، افتتح المركز بعروض متتابعة لفنانَين من رموز الحركة الانفصالية النمساوية Sezessionsstil التي ازدهرت ما بين 1897 و1906 في فيينا وفي مدن أخرى من إمبراطورية النمسا المجر، كبراغ وبودابست، وشكلت امتدادا للفن الجديد الذي شهدته أوروبا خلال القرن التاسع عشر، إضافة إلى فنان ثالث تأثر بتلك الحركة، واستلهم منها نزوعها إلى التجديد.
الأول هو غوستاف كليمت (1862-1918) من خلال عرض يدوم خمسا وثلاثين دقيقة، يستعيد فيها الزوار أهم لوحاته كـ”القبلة” و”شجرة الحياة” و”الفارس” و”الانتظار” و”نشيد للفرح” في أحجام ضخمة، بألوانها البديعة التي تتلألأ على الجدران، أو تنفرش على البلاط كالزرابي، أو تلتم بالصواري فتبدو متماوجة في أبعاد ثلاثة.
والثاني تلميذه إيغون شيله (1890-1918) في عرض طويل هو أيضا يذكّر بعالم هذا النجم الآفل، الذي تركز على البورتريهات كـ”الأم العمياء” و”الأسرة” و”أمّ مع طفلين”؛ والجنسانية كـ”النساء العاشقات” و”فتاة بلا تنورة” و”ثلاث نسوة واقفات”؛ والمناظر الطبيعية كـ”مرفأ تريستا” و”الجسر” و”الهُري القديم”. أما الثالث فهو الرسام والمهندس فريدنسرايخ هندرتفاسر (1928-2000) الذي واصل موجة التحديث التي بدأها كليمت، وجوزيف هوفمان، وكولومان موزر، وليوبولد بوير. ولوحاته، شأن إنجازاته المعمارية في مختلف بلدان العالم، من النمسا وألمانيا وسويسرا إلى اليابان والولايات المتحدة وزيلندا الجديدة، تتسم باحترام الطبيعة والإنسان، تدير الظهر للأفق المنظوري وتعتني بتتابع المناظر، ذلك أن هندرتفاسر، على غرار المهندس البرشلوني أنطوني غاودي (1852-1926) لا يؤمن بالخط المستقيم، بل يعتبره خطرا ابتدعه الإنسان، والحال أنه غريب عن طبيعة الإنسان والحياة وكل خلق، ويفضل عليه خطا حيويا، كما يتجلى في الطبيعة. ومن ثَمّ كان فنه عبارة عن تفجّر ألوان تحمل المشاهد إلى أصل الحياة وعناصرها الطبيعية في عملية لولبية بلا حد. وقد اختار الساهرون عرض فنه المعماري على واجهة المرسم في شكل جدارية دينامية كبيرة، تتألف من أشكال وألوان تتبدى مع خط يرسم عالما طوباويا حيث الطبيعة هي المثال والإنسان مركزها.
كل ذلك وسط أنغام موسيقية سيمفونية لهايدن وشوبرت وليست تذكر بفيينا في أوج ازدهارها وعظمتها.