ثنائية الجنس والسلطة.. هاوية نجح الرئيس الأميركي في تفاديها

ما الذي يمكن أن يجمع بين أسطورة جلجامش، وتحديدا قصة إنكيدو، والرئيس الأميركي دونالد ترامب؟ سؤال قد يبدو غريبا في الوهلة الأولى، لكن التاريخ يحمل الكثير من المفارقات والمقاربات، منها ثنائية الجنس والسلطة. يروي اكتشاف جديد لجزء من ملحمة جلجامش قصة إنكيدو الذي جندته الآلهة للإطاحة بجلجامش، لكنه سقط في فخ “الفضائح الجنسية” واختلطت الأمور لينتهي به الأمر منهكا من المرض بدلا من المواجهة في ساحة المعركة، في قصة عاشها زعماء وقادة وسياسيون كثر أطاحت بهم الفضائح الجنسية على مر التاريخ، لكن بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب فالأمر مختلف. كسر ترامب تلك السريالية التاريخية بعد أن نجح في بلوغ سدة حكم أعظم قوة عالمية معاصرة، تاركا خلفه إرثا طويلا من الفضائح التي لم يقلقه أمر إثارتها كما فشل منافسوه في استثمارها للإطاحة به والتأثير في مسيرته.
لندن - أدت اكتشافات حديثة عن ملحمة جلجامش التاريخية الشهيرة إلى المزيد من تسليط الضوء على مسألة إعادة تدوير ثنائية الجنس والسلطة منذ عصور ما قبل الميلاد، وكيف أن الثنائية ذاتها تحضر بقوة إلى يومنا هذا، وتساهم في تشكيل سياسات أكبر القوى في عالمنا المعاصر.
تعد ملحمة جلجامش أحد أقدم النصوص الأدبية في العالم. وتتجدد الاكتشافات باستمرار عن أجزاء منها تؤرخ لقصة ملك سومري مستبد وعلاقته بالآلهة والجنس. وخضعت هذه النصوص للتغيير والتوسع منذ بداية اكتشافها في عام 2100 قبل الميلاد، وصولا إلى النسخ الآكادية التي أعدها الناسخون (أسرى الحرب في الغالب) في مكتبة نينوى إرضاء للملك آشوربانيبال.
ومؤخرا عثر علماء الآثار عن أجزاء جديدة، صادف أنها تحمل سمات مشتركة مع العصر الراهن، حتى أن الكاتبة في صحيفة الغارديان آلكس كلارك قالت إن “الاكتشاف الأخير أثار اهتماما من نوع خاص لأنه يحكي عن علاقة الجنس بالتحول الحضاري والسلطة، إذ يمكن من خلالها رؤية نسخ من بطل القصة إنكيدو في شخص زعماء سياسيين يعيشون بيننا”.
وأجرت كلارك، في رؤية نشرتها الغارديان، مقارنة بين ملحمة جلجامش والرئيس الأميركي دونالد ترامب، متسائلة “هل يمكن لملحمة جنسية يعود تاريخها إلى 2100 قبل الميلاد أن ترينا كيفية التعامل مع ترامب؟”.
أزمة كل عصر
كان إنكيدو رجلا يفتقر إلى أبسط مظاهر التحضر ويغطي جسده شعر كثيف ولا يعرف سوى رعي الغزلان، كما كان يساعد الحيوانات على التخلص من مصائد الصيادين، لكن حياته انقلبت رأسا على عقب بسبب علاقة جنسية مع إحدى خادمات المعبد، شمخات.
الفكرة البارزة في تلك القصة هي التحول الجوهري الذي خضع له رجل لمجرد استسلامه للشهوة الجسدية، والملاحظ أنها فكرة معقّدة ومتكررة في عدة مواضع من التاريخ الأدبي، لأن إنكيدو كان سعيدا للغاية قبل وصول الخادمة شمخات، المومس التي تم إرسالها لإنكيدو من قبل الآلهة التي ترغب في خلق غريم لجلجامش، بهدف السيطرة على الأخير.
لم تسر الأمور كما أريد لها مع إنكيدو، فبعد أن استسلم لممارسة الجنس وأصبح أكثر تمدّنا واكتسب عادات جديدة، بدلا من أن يؤثر على جلجامش الجامح أصبح صديقا له. وتم تبني إنكيدو من قبل أم جلجامش، الإلهة نينسون، وعندما اقترب الموت من إنكيدو بعد مرض أصابه، راح يسب الخادمة شمخات، وهو يحتضر، لأنه اعتبرها السبب في إضعافه.
ويبرز الإغواء بالجنس في مشهد النهاية للقصة باعتباره أداة تحويل إنكيدو عن حياته الجميلة الهادئة في الغابة، وتعريفه بحياة المغامرة وامتيازات القصور مع جلجامش. كان ما خسره الرجل في هذا التحول أكبر من خسارة المرأة. وفي المقابل، لم تعان الخادمة شمخات كثيرا لأنها كانت تعمل لفائدة الآلهة.
من العراق القديم إلى أميركا اليوم
تدور ملحمة جلجامش، كما هو الحال في أعمال أدبية أخرى، حول مساعي الخصوم إلى تقييد قوة القائد القوي والنرجسي، حتى لو كان القضاء عليه هو الثمن، ويمكن تأمل فكرة مشابهة في عدد من الوقائع التي شهدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال فترة حكمه.
وفي العصر الحالي ثمة مستجدات طرأت على فكرة ثقة الرجال في بعضهم البعض، وأصبح من السهل فضح أمر الرجال الذين ينساقون وراء شهواتهم، بعد ظهور حملات على مواقع التواصل الاجتماعي مثل حملة ‘مي تو’ التي أطلقت في خريف العام الماضي، بهدف إدانة التحرش وسلوك بعض الرجال، خاصة المشاهير، في استغلال المرأة جنسيا.
الحملة أطلقتها امرأة وهي الناشطة تارانا بيرك، إلا أن ذلك لم يمنع أن يستخدم معانيها الرجال في خصوماتهم السياسية كسلاح فعال في خفض أسهمهم لدى الجماهير العريضة، وقد يكون ما حدث مع ترامب سيناريو مشابها لذلك بعد أن تعرض لحملات إعلامية منظمة لتسليط الضوء على فضائحه الجنسية، وإن كانت تعود إلى فترة ما قبل توليه الحكم.
الرابط بين ملحمة جلجامش والجدل المثار حول ترامب هو العلاقة بين الجنس والمال من ناحية والسلطة من ناحية أخرى، لأن إنكيدو في قصة جلجامش تخلى عن حياة الغابة الهادئة في سبيل اللحاق بحياة القصور وما تحتويه من علاقات نسائية وسلطة وما إلى ذلك، في حين قلب ترامب الآية وأبقى على ثنائية الجنس والسلطة معا.
معروف عن ترامب من قبل توليه الرئاسة الأميركية، أنه رجل أعمال ناجح وملياردير ذائع الصيت في عالم المال والأعمال، وكان من المستبعد أن يكون وراء رغبته في تولي حكم بلاده طمعا في زيادة أرباح مادية، كما عرف عن ترامب تعدد علاقاته النسائية في فترة ما قبل انتخابات الرئاسة، ورغم ذلك ترشّح لخوض منافساتها وهو يعلم جيدا أن هذا المنصب لن يسمح له باستمرار مثل هذه العلاقات.
لم تنقطع علاقة الجنس والمال بالسلطة منذ الزمن الذي دارت فيه أحداث أسطورة جلجامش وحتى عهد ترامب، لأنها علاقة شد وجذب دائمة، تقتضي أن يحضر أحدهما في غياب الآخر، فإذا حصل الرجل على السلطة لا بد للجنس أن يتراجع، وإن صعد الجنس على مسرح الفضائح العامة تبدأ السلطة في الضعف والتراجع، وهو ما أدركه ترامب، وربما لم يدركه إنكيدو الذي سعى وراء الجنس والسلطة في وقت واحد، فخسر كلاهما.
ورغم اندفاع ترامب في تصريحاته التي تبدو غير منضبطة أحيانا، إلا أنه تحلى بذكاء شديد عندما أعلن في أواخر عام 2016 تخليه عن أعماله، وقال إنه سيناقش “مسألة ترك أعماله العظيمة كلها من أجل التركيز بشكل كامل على إدارة البلاد لجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، مضيفا أنه رغم كونه غير ملزم قانونا بذلك، إلا أنه يستشعر أهمية ألا يكون هناك تضارب بين مصالح البلاد وأعماله.
وفي ما يتعلق بعلاقة المغامرات النسائية بالسلطة، لهثت شخصية إنكيدو في ملحمة جلجامش وراء الجنس مع أول محاولة للإيقاع به في هذا الفخ، ليصبح في ما بعد أداة طيّعة في أيدي آلهة المعبد الذين أرادوا تحقيق خططهم من خلال التلاعب به، أما ترامب فقد نجا من محاولة خصومه السياسيين الإيقاع به عن طريق نشر تفاصيل فضائحه الجنسية، وتوجيه الرأي العام نحوها.
كان من المفترض أن تكون الضربة القاضية لترامب في اعترافات مايكل كوهين محاميه السابق، وأقر فيها أمام القضاء بقيامه بشراء صمت ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز، مقابل 130 ألف دولار، وعارضة مجلة بلاي بوي السابقة كارين مكدوغال، مقابل مبلغ 150 ألف دولار، بغرض التأثير في انتخابات 2016، التي فاز على إثرها ترامب بالرئاسة، إلا أن تلك الاعترافات لم تؤت ثمارها كما كان يتمنى معارضو ترامب وخصومه.
ويشار هنا إلى أن كوهين لم يذكر صراحة اسم ترامب في اعترافاته أمام المحكمة، لكن محاميه لاني ديفيس أكد أن كوهين كان يقصد بحديثه ترامب، موضحا أن كوهين حلف اليمين بأن الرئيس الأميركي أصدر تعليمات له بارتكاب جريمة بدفع المال لامرأتين بغرض التأثير في انتخابات بالأساس.
استنكر لاني ديفيس أن يعتبر القضاة كوهين “مجرما” لأنه اشترى صمت السيدتين، بينما لم يتم توجيه اتهام في هذا الصدد للرئيس ترامب على اعتبار أنه “المحرض الرئيسي على ارتكاب تلك الجريمة”، ما يثير تساؤلات حول ضعف تأثير مثل هذه الفضائح على مسيرة ترامب كرئيس لأكبر قوة عظمى في العالم، مع أن فضائح مماثلة لعبت دورا في الإطاحة بأسلافه، على رأسهم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون.
النجاة من الفخ
سلطت شبكة دويتش فيله الألمانية الضوء على مثل هذه التساؤلات مؤكدة أنها تسببت في حيرة الخبراء والمحليين حول أسباب نجاة ترامب من هاوية الفضائح الجنسية، على الرغم من وجود العديد من الأدلة القوية على ارتكابه لها، في حين أن مثل هذه العلاقات كانت مقبرة المسيرة السياسية لزعماء على مر التاريخ، بل وفي تاريخ الأدب كما هو الحال في ملحمة جلجامش.
يرى توب بيركوفيتز الأستاذ في جامعة بوسطن أن “ترامب يمثل حالة خاصة خالفت القاعدة التي خضع لها غيره من السياسيين والمشاهير والصحافيين الذين قضت على مسيرتهم الاتهامات بسلوك أقل خطورة أو سوءا مما قام به ترامب”.
وهو ما أيده جي تيري مادونا مدير معهد السياسات والعلاقات العامة لدى معهد فرانكلين أند مارشال، الذي يرى أنه من الغريب عدم الاكتراث بقضية ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي ألبرت دانيالز، خصوصا أن الحديث عنها جاء بالتزامن مع انطلاق حملة مي تو والتي حصلت على شعبية كبيرة.
واستنتج مادونا وغيره من الخبراء، أن عبور عاصفة الفضائح الجنسية بسلام على ترامب وإدارته يرجع إلى تلاحق الأحداث المثيرة للرأي العام، والتي كان البيت الأبيض وترامب محورها، وربما لأن الفضائح الجنسية المكتشفة وقعت عام 2006 عندما كان ترامب مواطنا عاديا.
ولفت مادونا إلى أمر قد يغفل عنه الكثيرون، أن الرئيس الأميركي ينتهج سياسة “ليس لدي ما أخشاه”، ووافقه الرأي بيركوفيتز، الذي أوضح أن السر يكمن في “الطريقة التي يتعامل بها ترامب مع الادعاءات فهو لا يتردد في التغريد بعفوية عن كل شيء”، منتهجا بذلك نهج بيل كلينتون، والذي في تسعينات القرن الماضي رفع شعار عدم ترك أي اتهام دون رد حتى لو اقتضى ذلك الكذب أو تحريف الحقيقة بشكل كبير.
وصرحت أوليفيا نوزي مراسلة مجلة نيويورك، في مقابلة مع شبكة سي إن إن، بأن عدم اكتراث الرأي العام بفضائح ترامب يرجع إلى ما أسمته “السأم من فضائح ترامب”، مشيرة إلى أن “لديه الكثير من الفضائح من هذا النوع حتى بات هناك شعور بالسأم لدى الجميع”.
وبرزت ثنائية الجنس والسلطة كقاسم مشترك بين تاريخ السياسة والأدب، وأصبحت بمثابة خط واصل بين عالم الشخصيات الأسطورية وحكام عالم الواقع، إلا أن المتغير في معادلة التأثير المتبادل يبقى كامنا في طريقة تعامل الحاكم أو خياراته وقناعاته الشخصية التي حتما أنها تخدم خططه في النهاية، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الساسة في المستقبل.