"الجمهورية إلى الأمام" يخطئ قراءة الواقع الفرنسي

حزب ماكرون يفشل في أول اختبار لفرض نفسه بديلا لأحزاب تقليدية حكمت فرنسا بحلول معتادة.
الثلاثاء 2018/12/04
اتساع دائرة الاحتجاجات

باريس – يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جاهدا احتواء أزمة الاحتجاجات المحتقنة التي تقودها حملة “السترات الصفراء” وذلك باجتماعه الأحد برئيس وزرائه إدوارد فيليب وتكليفه بإجراء محادثات مع وجوه سياسية بارزة ومع المتظاهرين لإيجاد حلول ترضي الطرفين لإنهاء الاحتجاجات التي كانت مرفوقة بأعمال شغب كادت تحوّل باريس إلى ساحة حرب.

كما أجبرت الاحتجاجات رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب على إلغاء مشاركته في القمة العالمية للمناخ في بولندا، لمتابعة المظاهرات، خاصة بعدما دعا ماكرون رئيس وزرائه ووزير داخليته إلى التأهبّ لمجابهة الاحتجاجات.

ودخلت الاحتجاجات -التي تحولت إلى مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين- مرحلة حرجة بعد تحولها إلى أعمال عنف تسببت بإتلاف معالم أثرية وتراثية بما فيها قوس النصر الذي تعرض للتخريب وتدمير تماثيل ومنحوتات قديمة فيه حيث قدر رئيس مركز الآثار الوطنية الفرنسية فيليب بيلافال تكلفة الأضرار الجسيمة التي لحقت به بنحو مليون يورو.

ووفق العديد من المتابعين، فإن الاحتجاجات المنادية بوجوب تراجع الحكومة عن قرار زيادة ضرائب الوقود، قد تتحوّل إلى مطالب سياسية بشعارات هدفها الأول إسقاط النظام الحاكم الذي يقوده حزب الجمهورية إلى الأمام.

ورغم أن الرئيس الفرنسي أعلن أنه سيُبقي أياديه مفتوحة للتفاوض معهم إلا أنه يصر في الوقت ذاته على عدم تغيير السياسة الاقتصادية التي انتهجها منذ وصوله إلى الإليزيه وهو ما ينذر بالمزيد من الاحتقان.

Thumbnail

هذا الانفجار الاجتماعي يرجعه بعض المحللين لا فقط إلى عجز ماكرون عن فرض صورة الحاكم الذي يصغي إلى طلبات شعبه بل أيضا إلى فشل حزب الجمهورية إلى الأمام  في فرض نفسه بديلا اقتصاديا واجتماعيا حقيقيا للأحزاب الكلاسيكية التي حكمت فرنسا طيلة عقود بانتهاج سياسات مرنة مع المحتجين أو النقابات.

أخطاء حزب الجمهورية إلى الأمام في التعامل مع الأزمة وخاصة قراءاته الخاطئة لواقع الفرنسيين، أعرب عنها المسؤول الجديد عن حزب الجمهورية إلى الأمام ستانيسلاس غيريني الذي انتخب السبت بقوله “أخطأنا بحيث ابتعدنا كثيرا عن واقع الفرنسيين”. وقبل ذلك قال أيضا إن الحكومة “أخطأت في التواصل مع المحتجين”.

ويقر مراقبون بأن حزب الجمهورية إلى الأمام أخطأ التعامل مع الخصوصية الفرنسية بالمقارنة مع دول أوروبية أخرى، خصوصا أن فرنسا تعيش منذ قرون -مهما كان الحاكم- على وقع أنشطة قوية للمحتجين وخاصة النقابات وبالتالي من المستحيل تمرير إصلاحات اقتصادية موجعة في ظرف عام ونصف العام فقط دون تغيير المزاج الفرنسي العام.

وعلى عكس فترة حكم حزب الجمهورية إلى الأمام، فإن الفرنسيين اعتادوا على أحزاب تقليدية كالحزب الجمهوري أو الاشتراكي اللذين تعاملا مع التحركات الاحتجاجية بمرونة بل وبتقديم حلول ترقيعية ومعتادة.

هذه النزعة التقليدية التي يحبذها الفرنسيون، أكدتها أحزاب المعارضة خلال تعاملها مع ما أفرزته الاحتجاجات. وفي هذا السياق دعا زعيم الجمهوريين لوران فوكييه مجدداً إلى استفتاء حول سياسة ماكرون البيئية والضريبية.

في المقابل طلبت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن لقاء ماكرون مع زعماء الأحزاب السياسية المعارضة. كما طالبت بحل الجمعية الوطنية (البرلمان) وإجراء انتخابات جديدة.

أما في معسكر اليسار فقد طلب زعيم الحزب الاشتراكي أوليفييه فور تشكيل لجان حول القدرة الشرائية، فيما دعا جان لوك ميلانشون، زعيم حركة “فرنسا المتمردة”، إلى إعادة فرض الضريبة على الثروة، مشيداً بـ”تمرد المواطنين الذي يثير الخوف لدى ماكرون والأثرياء”.

من الناحية الاتصالية، رأى بعض المتابعين أن تفاعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من بيونس آيرس حيث حضر قمة الأرجنتين جاء حادا وغير مدرك لما يمكن أن تؤول إليه الاحتجاجات خاصة بعد توعّده بملاحقة من أسماهم “الفوضويين” والتعامل معهم بكل حزم وخاصة عدم إقراره -ولو ببنت شفة- بإمكانية التراجع عن قرار زيادة ضرائب الوقود.

ويبدو أن النجاح الذي حقّقه ماكرون في أقل من عامين قد بدأ يترنح لا فقط على الصعيد الفرنسي بل حتى على الصعيد الأوروبي أيضا ممّا قد يسبب للرئيس الفرنسي الطامح لأن يكون حارسا للاتحاد الأوروبي ضدّ الأحزاب اليمينية المتطرفة أو الشعبوية حرجا أمام داعميه وخاصة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي أهدته مفاتيح تزعّم أوروبا للدفاع عن هيبتها.

Thumbnail

من جهة أخرى، فإن فرنسا الجديدة التي تحدّث عنها ماكرون إبان حملته الانتخابية في عام 2017 قد لا ترى النور، بسبب عدة معوّقات، أولها تصاعد الحديث عن استغلال الأحزاب اليمينية واليسارية لتسارع نسق الأحداث والمطالبة بانتخابات مبكرة قبل عام 2022 وثانيها تردي الوضع الاجتماعي في فرنسا.

ورغم وجود إجماع على أنه ما زالت أمام ماكرون ثلاث سنوات ونصف السنة لتدارك الوضع، فإنه يبقى مصطدما على أرض الواقع بمؤشرات اقتصادية ضعيفة ولا ترقى إلى مستوى فرنسا ومن ذلك مثلا تواصل بقاء معدل النمو في نسبة 1.6 بالمئة أو ارتفاع معدّل البطالة إلى 9.1 بالمئة .

الإشكال الذي رافق احتجاجات السترات الصفراء يكمن أيضا في أن ماكرون نفسه  أقرّ في مقابلة شهيرة مع شبكة “سي.أن.أن” الأميركية بأن الإجراءات الاقتصادية التي فرضها قد جعلته غير محبوب، متوقعا أن الفرنسيين سيشعرون بالأثر الإيجابي خلال منتصف فترته الرئاسية على الأقل.

ورغم تصاعد وتيرة الاحتجاج ضد سياسات ماكرون، فإن مراقبين يستبعدون حصول أي تغيّر في الحكم لأن ماكرون يتمتع بأغلبية تشريعية مخلصة لشخصه ولحزبه باستثناء أقلية تابعة له فضّلت الانحياز إلى مطالب السترات الصفراء لكنه لم يرضخ لذلك.

في المحصلة، إن ماكرون المحاصر بموجة احتقان قد يرتفع سقف مطالبها في الأسابيع القادمة، وجد بكل بساطة خلال حملته الانتخابية في عام 2017 استراتيجية سياسية اتكأت على منطق وجوب إخراج فرنسا من مقاربات الحلول المعتادة، لكنه اليوم يصطدم بحقيقة عدم وجود بدائل حقيقية تتماشى وطبيعة الشعب الفرنسي، لتستخدم في نهاية المطاف الأحزاب التقليدية وخاصة اليمينية المتطرفة الأسلحة الاتصالية نفسها التي استعملها ماكرون في حملته الانتخابية.

ورغم محاولة ماكرون الظهور في صورة الحاكم القوي على شاكلة شارل ديغول المازج بين صورة الملك وعقيدة الديمقراطية، إلا أن أحدث الاستطلاعات لا توحي بنجاح خطته، حيث أظهرت تقدم حزب الشعبوية مارين لوبن على حزب ماكرون، وربما ستتعمق هذه الضربة القاسية لماكرون المراهن خارجيا على انتخابات البرلمان الأوروبي في العام المقبل.

6