الملاعب الجزائرية منابر سياسية تقلق السلطة

المدرجات انحرفت عن مهمتها: إعلان حرب من المجتمع على القبضة الحديدية للسلطات في الجزائر.
السبت 2018/12/01
حراك المدرجات عرضة للاستغلال

في ظل إقرار نظام الحزب الواحد والتضييق على حرية الرأي والتعبير في الجزائر، كادت الملاعب تتحوّل إلى المتنفس الوحيد للجماهير المختلفة، فإذا أردت أن تعرف ماذا يحدث في الجزائر، وعوض أن تقرأ الصحف وتتابع برامج الإذاعة والتلفزيون التي اتفقت جميعها على إخفاء الحقائق والتطبيل للخطاب الرسمي الجاف، فما عليك سوى الالتحاق بالمدرجات لمشاهدة مباراة في كرة القدم إذ أن الشاب الذي يكون عاطلا في الأغلب ويشتري تذكرة الدخول إلى الملاعب يرى لنفسه الحق في التكلم بحرية مطلقة والتعبير عن أفكاره الاجتماعية والسياسية، وقد يكون ذلك أحيانا بكلمات غير لائقة.

الجزائر - شكلت ملاعب الجزائر، خلال الأعوام الأخيرة، منابر لجماهير كرة القدم الجزائرية، لإطلاق أغان رياضية ذات دلالات اجتماعية وسياسية تنتقد السلطة، وتعكس حقيقة الواقع المعيش بحسب مختصين.

ولا تخلو مباريات الدوري الجزائري لكرة القدم، بدرجتيه الأولى والثانية، من تأدية الجماهير بشكل جماعي وحماسي أغان سياسية تشرّح الواقعين الاجتماعي والاقتصادي، اللذين يعيشهما الجزائريون.

ويعبر المشجعون الجزائريون عن همومهم وأحلامهم وآمالهم، وعن الواقع المعيش على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مع توجيه الانتقادات اللاذعة للمسؤولين، عاكسين بذلك صورة صادقة عن بلادهم التي تعيش نزيفا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا نشر ثقافة الإحباط.

المشجع المواطن

يطغى الحديث عن الانتخابات الرئاسية المنتظرة في الجزائر خلال شهر أبريل القادم، وعن مرشح السلطة ومشروع الولاية الرئاسية الخامسة لعبدالعزيز بوتفليقة، في مختلف الدوائر والمؤسسات العادية.

ويردد المناصرون أسبوعيا أغاني الغضب والرفض، وعلى رأسها “الرئيس مكانش.. كاين تصويرة” (الرئيس غير موجود، توجد صورة)، التي حققت نجاحا باهرا على شبكات التواصل الاجتماعي من حيث المتابعة والإعجابات، بعدما اختزلت المشهد الذي يغلب عليه جدل غياب الرئيس وتعويضه بإطارات صور يتم تداولها في أنشطة رسمية.

ومن الأغاني التي صنعت الحدث “بابور اللوح” (سفينة الخشب)، الأغنية التي يؤديها مشجعو نادي اتحاد العاصمة الجزائري. وتبدأ كلمات الأغنية بالقول “أوو أوو أوو مارانيش قادر نحمل هاذ لعذاب والزمان يطول عليا (لست قادرا على تحمل هذا العذاب والزمن يطول عليّ)، (كل ما فعلته لم يصلح رغم أنّ تفكيري صائب)”.

وفي 2017 أطلق جمهور فريق مولودية الجزائر أغنية سياسية حققت رواجا كبيرا تحت عنوان “في سوق الليل”.

وتقول في بدايتها “قولي علاش نقولك شوف لتحتا (قل لي لماذا؟ أقول لك انظر للأسفل)، كاين لي فطر وما تعشاش (هناك من تناول الغداء ولم يتعش)”. وتضيف “قل لي كيفاش أقول لك جاية هاكدا، لي حاكيمنها ما خلاوش (قل لي لماذا؟ أقول لك هي هكذا، حكامها (أي البلاد) لم يتركوا شيئا”.

ومن الأغاني الأخرى التي لقيت شهرة واسعة أغنية فكاهية مستمدة من السلسلة الجزائرية الشهيرة “السلطان عاشور” حيث انتقد المشجعون طريقة تسيير البلاد ووضع محيط الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة فتقول فرقة “الألماس الأسود” تحت وقع آلة “التمربيتا” في آخر عمل أنجزته “آه يا عاشور (يقصدون الرئيس) آه يا عاشور المملكة راحت ريح وأنت معذور علابلنا بلي راك مريض، ماشي أنت (لست أنت)، باينة الحكاية (معروفة الرواية)”.

ومنددين بالبيروقراطية وانتشار الفساد في هذه المقطوعة من نفس الأغنية يقولون “غير الرشاوى لا يحبون الزوالي (الفقير)”.

الرياضات الجماهيرية تسمح بتجمع المؤيدين للتعبير جماعيا عن موقف سياسي
الرياضات الجماهيرية تسمح بتجمع المؤيدين للتعبير جماعيا عن موقف سياسي

وفي أغنية أخرى مستلهمة من كلمات وشخصيات المسلسل “عاشور العاشر”، ويعتبرها نشطاء يوتيوب أقوى أغنية سياسية لأنصار إحدى الفرق الوطنية في 2018 تحمل عتابا وخطابا شديدي اللهجة تجاه حكومة أحمد أويحيى رئيس الوزراء الحالي، تحت عنوان “المملكة 2018” يقولون “يا رب فرج علينا، والمملكة راهي في حالة، وحنا لي صاير فينا، والشكوى للعالي مولانا، كي تشوف الأمير لقمان (شخصية في المسلسل) في موريتي راهو يتقلش (موريتي إقامة الدولة الخاصة بالوزراء والمسؤولين وأبنائهم) والزوالي مشتاق طعام، في ضربة واحدة زدتو لكلشي (ارتفاع أسعار المعيشة)، ويحيا فارس الجينرال (شخصية في مسلسل عاشور العاشر)، لي عندو كامل الحقوق (إشارة إلى أنّ العسكر والمسؤولين يتمتعون بكامل الحقوق بينما الشعب البسيط لا يملك أدنى حق).

كما قصف المشجعون بتهكم الشياتين والمتزلفين إلى الرئيس.

وفي مقطع “ياو هادي من عند قنديل (دور الوزير في المسلسل)” يكشفون مدى سوء الوضع الاقتصادي والاجتماعي وبقاء البسطاء خلال سنوات الإرهاب مولكن اليوم في عز الأمن فضلوا الهجرة على البقاء في البلاد، في قولهم “دير المرميطة كي العادة، في التسعينيات والله ما راحو واليوم كي كان الرصاص والبومبات، واليوم ليفايم (العائلات) في بوطي (قارب) راحوا”.

ويختم المؤدون أغنيتهم برسالة إلى الأمهات والاعتذار لهن بعد لجوئهم إلى المخدرات وأفعال أخرى بسبب انسداد الآفاق “راني مغبون يا ما (يا أمي) وخايف نباصي (أخشى أن أقع في ورطة)، ماكاش الحلول، وكيفاش نواسي (ماذا أفعل)”.

“قيلونا، قيلونا (دعونا، دعونا)”، هي أيضا أغنية سياسية اجتماعية أطلقها أنصار اتحاد العاصمة ترصد الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتردي في البلاد مما دفع الشباب إلى “الحرقة” واستهلاك المخدرات والأقراص المهلوسة واتساع رقعة الفقر والتسول واستفحال ظواهر أخرى كالجريمة والسرقة والفساد.

ويقول شهود عيان لـ”العرب”، كم اضطر مسؤولون كبار في الدولة ووزراء، إلى وضع “الصوف في آذانهم” لتفادي سماع هتافات الجماهير الغاضبة عليهم وعلى أداء السلطة، لأنها الفرصة الوحيدة التي يمكن من خلالها التعبير عما يختلج في صدور الآلاف، الذين تحولت الكرة بالنسبة لهم إلى “أفيون”.

وقال المختص الاجتماعي محسن بن عاشور إنّ الكلمات السياسية التي تصدرها جماهير الملاعب تعكس حقيقة المواطن المغلوب على أمره الذي لا يستطيع كشف همومه جهرا إمّا خوفا أو حياء أو احتراما.

الجماعة ترى نفسها في فريقها وتعلق عليه آمالها، وطاقتها للفوز، وأيضا عدوانيتها وإحباطاتها

ولفت إلى أنّ أغاني مشجعي الكرة الجزائرية لها دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية تنم عن وعيهم ووعي المواطن بصورة عامة بما تشهده البلاد من قضايا ومشاكل. وأوضح المتحدث أنّه يفترض من الحكومة أن تكون ذكية وتسمع مثل هذه الأغاني الناقمة على الوضع العام، والتي يصدرها المشجعون فوق المدرجات.

بدوره قال محمد بلقطار، صحافي بالقسم الرياضي لجريدة “الفجر” (خاصة)، إنّ الأغاني السياسية في الملاعب الجزائرية تحولت إلى منبر لقصف وانتقاد المسؤولين.

وأردف قائلا “مجموعات الألتراس في ملاعبنا ظاهرة ملفتة للنظر، خاصة بعد ترويجها لشعارات وأغان ذات طبيعة سياسية”.

ولفت إلى أن مشجعي الفرق يتفانون في ترجمة واقعهم بطريقة بسيطة تؤكد فهمهم لأسباب التراجع الذي تعيشه البلاد خصوصا على صعيد التكفل بالشباب.

وأوضح المتحدث أنّ رابطات مشجعي كرة القدم الجزائرية، توجه رسائل متعددة كالمطالبة بالعيش الكريم والحرية وتندد بالظلم والفساد. ووفق المتحدث “هذا الأمر يدفع كثيرا عناصر الأمن إلى التدخل لمنع الأنصار من تعليق رايات يعتبرونها عادية في حين تراها السلطة تعدّيا عليها”.

 ويعتقد نبيل بلحيمر، صحافي بالقسم الرياضي لجريدة “الشروق” (خاصة)، أنّ “الملاعب حاليا تعدّ المنفذ الوحيد أمام الشباب للتعبير عما يختلج في صدورهم”. وقال بلحيمر “يستغلون المكان لتمرير أفكارهم السياسية بالهتافات والأغاني وحتى بالرايات واللافتات، بعد أن صدت في وجوههم الأبواب”.

وأردف قائلا “جماهير الكرة الجزائرية كثيرا ما تسببت في أزمات دبلوماسية مع دول”.

وقبل عام رفعت جماهير نادي أمل عين مليلة في الشرق الجزائري، لافتة اعتبرت مسيئة للملك السعودي. واضطرت السلطات الجزائرية إلى تقديم اعتذار رسمي. وفي التاسع من سبتمبر 2018، انسحب فريق عراقي من مباراته أمام مضيفه الجزائري؛ احتجاجاً على هتافات تغنَّى فيها الجمهور بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين.

والحادثة كادت تتسبب في أزمة دبلوماسية عاصفة بين الجزائر والعراق، لولا تدخُّل رئيس اللجنة الأولمبية الجزائرية مصطفى بيراف، الذي قدَّم اعتذاراً رسمياً للسفير العراقي لدى الجزائر.

حرب شعارات

في ذروة الهجوم الذي شنته الحكومة على عدد من الإعلاميين والناشطين والمدونين في الأسابيع الأخيرة، وتورط وسائط إعلامية محسوبة على السلطة، في التشهير والترويج لصورة سلبية حول هؤلاء قبل أن يحسم القضاء في ملفاتهم، اضطرت الحكومة إلى وقف المواجهات الكروية لعدة أيام، بعدما تناهى إليها تصاعد حدة الغضب في الشارع الجزائري، وتحول مدرجات بعض الملاعب إلى مقدس للمدون المهاجر “أمير دي زاد”.

ويقول مسعود حداد (عمره 33 عاما، جامعي وموظف، مناصر وفيّ لنادي مولودية الجزائر) لـ”العرب” إن “ناديه المفضل، هو أكثر من فريق كرة قدم، هو تاريخ وذاكرة وأنصار من مختلف ربوع الجزائر”.

الظاهرة عالمية، لكنها تأخذ منعرجات خطيرة في الملاعب الجزائرية
الظاهرة عالمية، لكنها تأخذ منعرجات خطيرة في الملاعب الجزائرية

ويذكر الأستاذ دربالي علي أن “الظاهرة لا تقتصر على الجزائر فقط، فهي تتعداها إلى الدول والمجتمعات المشابهة، وهي تعكس فشل المؤسسات والسلط في مواكبة تطور وسائل التعبير، وعجزها عن التكفل بالمشاكل الحقيقية للمجتمع”.

إن الرياضات الجماهيرية، وخصوصا كرة القدم، تسمح بتجمع المؤيّدين للتّعبير جماعياً عن موقف سياسي، في البلدان التي يميّزها حكم الحزب الواحد والتضييق على حرية الرأي واالتعبير. حيث يقدّمون فرصة للدّفع بالتلفزيون -الحاضر حتماً- وإجباره على بثّ رسالة مضادّة، مباشرة إلى كلّ البلد.

ويقول الصحافي الفرنسي إغناسيو رامونيه في مقال نشر في “لوموند دبلوماتيك” “بعض صفات كرة القدم تجعل منها مفجرًا اجتماعيًا، كما تجعل منها صفات أخرى بديلة معاصرة عن الدّين، ومضاعفة للحماس القومي. فخلال شوط يتقمص اللاعبون ‘فضائل الأمة': رجولة، ولاء، إخلاص، تضحية، حسّ الواجب، حسّ الأرض، الانتماء إلى مجموعة، وتصبح المقابلة تضحية درامية حقيقية. لذلك أصبحت كرة القدم مرآة لمجتمعاتنا”.

وبحسب تقرير للمجموعة الاقتصادية الأوروبية، فإن لقب “البطل” ليس فقط حصيلة للفريق ولكن أيضا للمجتمع الذي ينحدر منه هذا الفريق. الجماعة ترى نفسها في فريقها وتعلق عليه آمالها، وطاقتها للفوز، وأيضاً عدوانيتها وإحباطاتها. وبذلك تحفّز كرة القدم كلّ توظيف أسطوري، والآمال الحالمة والعصبيات القومية.

ويقول المؤرخ بيير ميلزا إن كرة القدم “تُساهم في الحفاظ على الوطنية المتبقية من خلال إعطاء مكان لبروز حماس مفاجئ وشوفيني خلال المواجهات الدولية الكبرى”.

كل مواجهة تأخذ بهذا الشكل مظاهر حرب شعائرية من خلال استدعاء للرموز الوطنية (أناشيد، أعلام، حضور رؤساء الدول) واستخدام واسع للتعابير المجازية الحربية: “محاربون”، “يدافع”، “قائد”،“تكتيك”، ”فوز”… ويجزم هنري كيسنغر بأن “المقابلة الجيّدة في كرة القدم تقوم على المبادئ الكبرى للاستراتيجية”. وتتعدّد المقارنات في هذا السّياق.

من جانبه يصرح عبدالله راقدي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باتنة –1– الجزائرية “يشير سلوك جماهير كرة القدم حيال مثل هذه القضايا إلى عجز وفشل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في بلورة استراتيجية شاملة (سياسية اقتصادية إعلامية) تحفظ المجتمع من الانخراط المجاني والمكلف في نزاعات وصراعات كانت إلى وقت قريب غريبة عنه؛ على غرار نقل النزاع الطائفي والمذهبي من منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة شمال أفريقيا.  وأضاف الأستاذ الجامعي “يجب تنويع وتوسيع منابر التعبير”.

ويرى الإعلامي الرياضي رياض بن مهدي، أن المدرجات انحرفت عن مهمتها المتمثلة في توفير المتعة والفرجة الكروية، وتحولت إلى منبر للتعبير عن قضايا مختلفة، يفترض أن تخصص لها آليات وقنوات أخرى، لكن يبقى الأمر طبيعيا في ظل فشل المؤسسات السياسية والمدنية والإعلامية في احتواء نبض الشارع.

وأضاف في تصريحه لـ”العرب” أن “الظاهرة عالمية، لكنها تأخذ منعرجات خطيرة في الملاعب الجزائرية؛ لأن التضييق والخنق اللذين يتعرض لهما الشارع، يتم التنفيس عنهما في المدرجات والأخطر في المسألة أن حراك المدرجات الذي هو عرضة للحشد والاستغلال، قد يتحول إلى انفجار اجتماعي كبير”.

ساهم في إعداد التقرير: صابر بليدي

20