المقدسيون الأفارقة أتوا للحج فاستقر بهم المقام في فلسطين

المقدسيون الأفارقة كادحون منذ قدومهم لم يعتلوا مناصب عليا، ولا يملكون جواز السفر الأردني كغيرهم من سكان المدينة.
الثلاثاء 2018/11/27
مقدسيو الهوى بعادات أفريقية
 

انتشر الأفارقة في الأرض منذ قديم الزمان وهم اليوم يعيشون في القارات الخمس، وإن غادر بعضهم أو أغلبهم أرضهم تحت ظروف العبودية القاسية، فإن البعض الآخر قدم إلى الحج ليستقر به المقام في فلسطين حيث المسجد الأقصى، وهم اليوم على قلة عددهم مازالوا يعيشون في الأحياء التي سكنها أجدادهم.

القدس - يتميزون ببشرتهم السمراء، مقدسيون أفارقة، كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم، هم اليوم جزء لا يتجزأ من نسيج المدينة القديمة في القدس، قدموا من الحج فاستقروا في فلسطين للذود عليها من ظلم الاستعمار.

عند باب المجلس، أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك، وعلى يمين طريق التكية هناك، ومنذ الصباح ينادي بائع الكعك بلكنة أهل القدس وقد انعكست على وجهه الأسمر أشعة الشمس، “كعك، كعك مقدسي يا خال”، فلا تستغرب كيف يتقن الرجل ذو الملامح الأفريقية اللغة العربية، إنه فلسطيني من أصول افريقية، لكن الهوى والهوية مقدسيان، في القدس عاش جده، وفي القدس ولدت أمه وأباه، وولد هو.

المقدسيون المتقدمون في العمر لا يزالون يتذكرون السيدة أمّ كاتيكير، أشهر بائعة فستق في القدس، حيث كانت تجلس أمام بابورها على الجهة اليسرى من داخل باب العامود، حيث ظلت لسنوات طويلة جزءا من الصورة الطبيعية لباب العامود، فإذا غابت يوما كان الكل يفتقدها، وكأنهم أصبحوا مدمنين على فستقها اللذيذ الساخن.

الجالية الأفريقية اندمجت منذ قديم الزمان مع المجتمع المقدسي متجاوزة فروقات اللون والأصل، ويعود أصلها لأربع دول كانت قد جاءت منها، تشاد والنيجر والسنغال والسودان، هم كغيرهم ممن استقر في مدينة القدس وضحى لأجلها بمسقط رأسه.

رشفة من الذكريات
رشفة من الذكريات

وتقول المصادر التاريخية إن الجالية الأفريقية تتواجد في القدس منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ولكنها تجمعت فيها عام 1917 للدفاع عن المسجد الأقصى، حيث كان أبناء الجالية يحجّون إلى مكة ويأتون إلى الأقصى لتقديس حجتهم، ثم قرروا البقاء حتى يدافعوا عنها من ظلم الاستعمار. ويقول المؤرخ المقدسي من الأصول الأفريقية محمود جدة، “يعود وجودنا في فلسطين إلى زمن الفتوحات الإسلامية، عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس رافقه أجدادنا، ووراء مجيئهم إلى هذه المدينة المقدسة سببان، الأول ديني، حيث جاؤوا لأداء ما توصف بالحجة المقدسية، وهم بهذه الحالة يكونون قد حجوا إلى المواقع الثلاثة الأساسية في العقيدة الإسلامية، وهي الحرم المكي والحرم النبوي والحرم القدسي، والسبب الثاني جهادي حيث قدموا للدفاع عن المقدسات الإسلامية ضد التواجد البريطاني ومن ثم الصهيوني”.

بعض الأفارقة لم يعودوا إلى بلدانهم، بل استقروا بجانب المسجد الأقصى بهدف حمايته وجواره، يقومون بحراسته والاعتناء بنظافته وخدمة زواره، حيث كانوا يملكون مفاتيح المسجد الأقصى في زمن الحكم التركي واستمروا بمجاورته حتى يومنا هذا.

و لم يتقلد الأفارقة مناصب ولا وظائف عليا منذ قدومهم إلى فلسطين، بل مازالوا حتى اليوم من الكادحين، وسبب ذلك يعود إلى التسرب من المدارس للمساعدة في إعالة عائلاتهم، فمعظم الشباب هم من العمال وقلة قليلة منهم موظفون.

يقول موسى قوس (55 عاما)، وهو أحد أبناء هذه الجالية، ومن القائمين على جمعية الجالية الأفريقية، “يعدّ أبناء الجالية الأفريقية من الكادحين وسبب ذلك يعود إلى التسرب من المدارس للمساعدة في إعالة العائلات، فمعظم الشباب هم من العمال، وقلة قليلة منهم موظفون، وكان عملهم الرئيسي السابق مقتصراً على حراسة المسجد الأقصى، والبعض الآخر يعمل في تحميص الفول السوداني”.

ويقول محمود جدة،”عمل آباؤنا في سلك الشرطة والحراسة، وبيع الفستق أو ما يعرف بالفول السوداني، فقد كانوا يُحمصون الفستق يدويا بطريقة لا يعرفها أحد غيرهم، طريقة تعطي الفستق طعما ونكهة خاصتين. ولتمييزه عن باقي الفستق في الأسواق كانوا يطلقون عليه فستق عبيد. كان الفستق يضع في وعاء أطلقوا عليه اسم البابور، له مدخنة يخرج منها دخان أبيض، يشد المارة بمنظره الخلاب ويغريهم لشرائه”.

وقد عمل بعض أفراد الجالية الأفريقية في الزراعة، وعمل بعضهم الآخر كباعة متجولين أو في مختلف الأعمال الهامشية، وقد حافظ الفلسطينيون الأفارقة على علاقة اقتصادية واجتماعية قوية مع سائر فئات المجتمع الفلسطيني.

وما زال هؤلاء يعانون ظروف اجتماعية صعبة حيث تتميز منازلهم بالكثافة السكانية العالية، وانعدام الخصوصية إلى حد كبير، وقلة التهوية والإنارة الطبيعية وارتفاع نسبة الرطوبة، فالغرف ضيقة جدا، وملتصقة بعضها ببعض، فهي بالأساس لم تـُبن لسكن العائلات، بل لإيواء الأفراد فيما كانت تسمى الغرفة الواحدة “خلوة”.

ونظرا للرغبة الشديدة بالبقاء إلى جانب الأقصى، ولضعف الإمكانيات المادية اضطر الأفارقة إلى بناء غرف إضافية في الساحات المكشوفة، بلغت في بعض الحالات 3 طوابق، فيما ظل البقية يعانون من أزمة الإيجار وغلائه المرتفع.

ألفة كبيرة في جالية قليلة
ألفة كبيرة في جالية قليلة

رغم ظروف الفقر، تتميز الجالية الأفريقية بروابط اجتماعية قوية، ويتجلى ذلك في المشاركة الكاملة في الأفراح والأتراح ونوائب القدر، يقول محمود جدة “إن ما يميز الأفارقة شدة تمسكهم بعضهم ببعض، وتفقد أحوال بعضهم بعضاً، وهم يتفقدون أهلهم وجيرانهم”.

ومازالت “الحطيطة” عادة أصيلة تراها في الفرح والترح، تجمع أهالي الجالية الأفريقية على قلب واحد، حيث يقومون بجمع المال وإعطائه لصاحب الفرح، إما في حالة الوفاة فإنهم يتكفلون بثلاثة أيام العزاء.

يقول جدة، “ما يميز الآباء شدة تمسكهم ببعضهم البعض، وتفقد أحوال أحدهم الآخر ويكاد يكون من المستحيل أن يهجع أحدهم إلى النوم، أو يخلد إلى الراحة قبل أن يتفقد الموجودين حوله. كما لا يمكن لآبائنا أن يبدأ احدهم تناول وجبة الطعام قبل أن يتأكد على الأقل من أن طبقا أرسل إلى الجيران على الرغم من قلة الحيلة كما يقال”.

ويضيف، “كانوا دوما يقولون كيف لنا أن نأكل بينما جيراننا قد لا يكون لديهم شيئا يأكلونه، وكيف لنا أن نشعر بالشبع وجارنا قد يكون جائعا. وعلى الرغم من فقرهم وحاجتهم إلى المساعدة فإنهم لم يبخلوا قط بالصدقة على المحتاجين إذا كان لهم أكثر من حاجتهم في ذلك اليوم. أتذكر الآن كيف كانوا يوزعون الزكاة، ولا أفهم كيف كانوا يفعلون ذلك؟ فأنا متأكد من أنه لم يكن لديهم الحد الأدنى من المال كي يعيشوا يومهم”.

أجيال متعاقبة في المدينة القديمة
أجيال متعاقبة في المدينة القديمة

وكانت لديهم عادات أسبوعية كل يوم جمعة، يقول المؤرخ جدة، “بعد انتهاء صلاة الجمعة، نجتمع في الرباط المنصوري في مكان يعرف لنا باسم تحت التوتة (كانت وما زالت هذه التوتة قائمة) ونتناول وجبة العصيدة والطبق المرافق لها، وهو إمّا الملوخية الناشفة أو ما يعرف باسم الويكة (عبارة عن بامية مجففة ومجروشة) المزودة بالبهارات خاصة الفلفل الحراق”.

ويضيف، “بعد تناول الغذاء نلتفّ جميعا حول أحد الآباء، ونتحدث في شؤون الدين حتى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر يستمر اللقاء، وكنا نتناول الأوضاع الاجتماعية والسياسية العامة بالعرض والتحليل. ولكن مع الأسف الشديد هذه العادة لم تعد موجودة اليوم إلا في حالات نادرة جدا حيث تقتصر على المناسبات الاجتماعية وتناول العصيدة”.

وما تزال الجالية الأفريقية تعيش عمّا ورثوه عن أبائهم من حب القدس ونقاء القلب، لا فرق بينهم وبين الفلسطينيين حتى اللكنة المقدسية التي أتقنوها تثبت بأن القدس تجري بعروقهم، رغم أنهم لا يمتلكون جواز السفر الفلسطيني مثلهم مثل سكان القدس، ولا يملكون جواز السفر الأردني كغيرهم من سكان المدينة، الأمر الذي منعهم من زيارة أي بلدٍ ليس له أي علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.

20