تحريك أوراق الفساد في إيران: ثورة داخل النظام أم حرب زائفة لتهدئة الغضب منه

طهران - في ملمـح يوحي بأن أركان النظام الإيراني قد تكون ربّما على وشك الانهيار، تصبّ كل التطورات الداخلية بالبلد علاوة على الضغوط الدولية في خانة أنه لم يعد بوسع النظام تعليل مواقفه مما يحدث في الداخل أو في الخارج، خاصة أن الاحتجاجات الشعبية في إيران تنذر بالانفجار في أي لحظة على وقع مزيد تشديد العقوبات الأميركية على طهران، أو ما يدرسه وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي من إمكانية فرض عقوبات مماثلة على النظام الإيراني جراء هجومين فاشلين تتحمّل مسؤوليتهما الاستخبارات الإيرانية في أوروبا.
قلب المعادلة
يمكن أن يكون ما كشفه وزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف مؤخرا عن غرق البلاد في الفساد وفي تبييض الأموال قادرا على قلب المعادلة وعلى نخر أسس النظام المتمترس منذ أربعة عقود تقريبا.
وقال جواد ظريف إن “تبييض الأموال هو حقيقة في إيران والكثير يستفيدون منها”، مؤكدا أن “آلاف المليارات من الريالات يجري تبييضها من قبل منظمات غير معروفة”.
وأربك هذا التصريح الدوائر القضائية في البلاد وجعلها ترد على لسان رئيس السلطة المحافظ صادق لاريجاني بدعوته المسؤولين الحكوميين إلى عدم اتهام المؤسسات الحكومية بتبييض الأموال في وقت تواجه فيه البلاد عدة مخاطر وهو ما يخدم العدو وفق قوله. وتساءل لاريجاني متهكّما من ظريف بقوله “إذا كان هناك تبييض أموال ضخم في البلاد، لماذا لم تبلغ القضاء بذلك؟”.
وهذا التراشق بتهم الفساد، ليس أمرا جديدا بين المحافظين والإصلاحيين، ويبرز خصوصا خلال الحملات الانتخابية، لكن ما يلفت في هذه التصريحات الأخيرة هو أنها تأتي في وقت تشهد فيه البلاد ظرفا صعبا على المستويين الداخلي والخارجي، وفي وضع طبيعي تكون الوحدة والتماسك من أهم وسائل الدفاع والحماية.
وينظر العديد من المراقبين إلى عودة هذا التراشق بالتهم بين قادة الإصلاحيين والمحافظين تزامنا مع تطورات دولية تحاصر طهران أو تسارع نسق الاحتجاجات في بعض المناطق خاصة في غربي جنوب البلاد، بأنه دليل على رغبة الإصلاحيين الذين يقودهم الرئيس حسن روحاني ووزرائه في استغلال التطورات لصالحهم عبر الإبراق للداخل وللخارج على حد السواء بأن طهران ملتزمة بكل الإصلاحات التي يجب القيام بها والتي كانت من أهم الشعارات الانتخابية في عام 2017، وفي ذلك صدام مع المحافظين ما قد يعني وصول النظام إلى حافة الانهيار.
وكان أحمد توكلي، نائب سابق عن التيار المبدئي في طهران، عبّر عن هذه الوضع بقوله “لا يمكن إسقاط الجمهورية الإسلامية من خلال انقلاب عسكري أو ثورة مخملية”، بل ستكون نهاية “النظام الإيراني من خلال انتشار الفساد الاقتصادي والإداري في جميع أركانه ومؤسساته الرسمية”.
ويتزامن الصراع الداخلي الذي تعيشه إيران حاليا مع انقضاء المهلة التي منحتها مجموعة العمل المالي الدولية لإيران والخاصة بتحديث قوانينها في مطلع العام المقبل، لا سيما أنها مصنّفة كدولة أولى في عمليات غسيل الأموال، ومن شأن أي تأخير أو عدم تجاوب من طهران أن يقود إلى طردها خارج النظام المالي العالمي نهائيا. في الوقت الذي تعاني فيه شرائح واسعة من المجتمع الإيراني من البطالة وضعف التنمية في البلاد خاصة في مناطق الجنوب، تشير آخر الأرقام الصادرة عن المركز الإيراني إلى أن نسب عمليات غسيل الأموال في طهران وصلت إلى أرقام فلكية، حيث تم فتح حسابات مصرفية زائفة تقدر بنحو 49 مليون حساب بنكي.
وتؤكد الأرقام أن حسابات بنكية لأكثر من مليون شخص داخل البلاد تفتقد لوجود أرقام التعريف البنكي، فيما تحوم شبهات حول قانونية نحو 55 مليون حساب بنكي في إيران، الأمر الذي خلق ظاهرة ليس لها مثيل في العالم، وفقا لصحيفة كيهان.
علاوة على تزايد ضغوط واشنطن التي زادت في وتيرة عقوباتها الاقتصادية على طهران، فإن مختلف المؤشرات تدل على أن النظام الإيراني ورغم انتهاجه سياسات المهادنة والمغالطات أمام شعبه وأمام المجتمع الدولي، فإنه لن يتغيرّ أبدا لا في علاقاته بأذرعه في المنطقة ولا في علاقة حتى بدول الاتحاد الأوروبي التي بدت مدافعة في البداية عن إيران حين خلطت بين الاتفاق النووي وبقية القضايا التي تتورط فيها طهران، لتعدّل مؤخرا بعض مواقفها إثر تجميد فرنسا لأصول إيرانيين يشتبه في ضلوعهما بأعمال إرهابية، وإعادة التأكيد على الفصل بين الاتفاق النووي والعقوبات على مشروع الصواريخ الباليستية الإيرانية.
ولا يثق أغلب المجتمع الدولي في ما يثار في إيران من جدل حول قضايا الفساد وتبييض الأموال، معتبرين أن كل ما يدور الآن لا يخرج عن سياقات تهدئة داخلية لإيهام الإيرانيين، وأيضا الأوروبيين، بالمضي قدما في عملية الإصلاح.
ويقول مسؤول أوروبي إنه إذا كان الإصلاحيون يريدون حقا السير نحو الإصلاح والتغيير، فعلى قادتهم الكشف عن الأموال التي ترسل إلى أذرع إيران في المنطقة، وهي تحويلات لا تمر أبدا عبر الإجراءات القانونية المالية الدولية.
ويضيف أنه كان على من يدعون العملية الإصلاحية في إيران لخفت أصوات المعارضة الداخلية والاحتجاجات الشعبية، الكشف عن الأدوار التي يستفيد منها الحرس الثوري الإيراني، الذي أصبح بفضل تشديد العقوبات الأميركية على إيران أحد أكبر المستفيدين والمكدسين للثروات المالية بفضل الإشراف المباشر على التهريب والأسواق الموازية كبديل للواجهات المالية القانونية.
زيف شعارات الإصلاحيين
تتواصل دعوات الإصلاحيين في إيران للشعب إلى سلك طريق الإصلاح لتجاوز الصعوبات، إلا أن كل ذلك يصطدم بقبضة المحافظين على الحكم وغطرسة الحرس الثوري أو ربما لزيف شعارات الإصلاحيين أنفسهم.
الإصلاحيون في إيران اليوم هم جزء من المنظومة العميقة وأجندتهم لا تختلف في جوهرها عن أجندة المتشددين، فأغلبهم من أبناء النظام الذي انقلب على مبادئ الثورة وقام بقمع المفكّرين الإصلاحيين والمثقفين الذين شاركوا بشغف في الانقلاب ضد نظام الشاه، ليشدد بعد ذلك رجال الدين وقوات الأمن قبضتهم على المجتمع والسياسة في الجمهورية الإسلامية.
وبالتزامن مع كل الفساد المنتشر في إيران، تواصل أركان الحكم الإيراني المراهنة على القبضة الأمنية في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية التي بدأت تتسع، رغم أن خبراء يقولون إن قمع الحركات الشعبية بالعنف سيؤدي إلى نتيجة عكسية.
ورغم أن شعارات مقاومة الفساد عرفت أوجها مع استعداد إيران منذ مايو 2017 التي أعطت روحاني الرئاسة، إلا أنها بقيت بمثابة أسلحة لتهدئة الوضع الداخلي دون أن ترى النور، وهو ما أكده مؤخرا الرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي الذي وجّه رسالة إلى مؤتمر عقده حزب إصلاحي، شدّدت على “أهمية تشكيل الأحزاب ودعم الحكومة للنشاطات الحزبية وإزالة الحواجز والمضايقات والقيود التي تواجه منظمات المجتمع المدني والأحزاب”. وأضاف خاتمي “على الأحزاب معرفة الفساد المستشري الذي يهدّد الشرعية، بل يهدد وجود الشعب وكيانه، كما يجب معرفة الطرق المناسبة لمكافحته”.
وفي نفس السياق، قال الأمين العام للحزب الإصلاحي علي شكوري “أطفالنا يعانون عاصفة من أسئلة عجزنا عن مواجهتها، تعود إلى السنوات الأولى، أسئلة كان يجب أن نسألها ولم نفعل آنذاك، ولو سألناها ربما كنا حصلنا على إجابات مناسبة”، مشككا في “نزاهة مؤسسات الحكم والمؤسسات السيادية، وانعدام الكفاءة وانتشار فساد ممنهج”.