الماراثونات تختبر الدرجة القصوى للتحمل

يتساءل الكثير من الناس عن سر قوة التحمل التي يتمتع بها الأبطال الرياضيون أو المولعون بالركض لمسافات طويلة أو خلال الماراثونات، فرغم مشقة التمارين والجهد الشديد، يصمدون إلى النهاية ويحققون أرقاما مهمة وقياسية أحيانا.
لندن – يصنف مدربو اللياقة الركض لمسافات طويلة ضمن أفضل التدريبات التي تختبر الدرجة القصوى للتحمل، سواء كان ذلك على مستوى القدرات العضلية أو الذهنية أو التنفسية.
وقد أفاد تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية بي.بي.سي، أن الركض لمسافات طويلة، مثل ماراثون من 246 كيلومترا، يستلزم لياقة بدنية غير عادية، لكن مهما كان التدريب شاقا، فإن نجاح أي بطل رياضي يتوقف بشكل كبير على قوته الذهنية.
وخلال السنوات الأخيرة، زاد الإقبال على الماراثونات فائقة الطول، فيما يعكف الباحثون والعلماء على فهم الكيفية التي يتمكن بها جسم بشري من اجتياز ظروف غاية في الصعوبة.
فكيف لإنسان أن يتحمل أمرا كهذا بما ينطوي عليه من صعوبات بدنية وذهنية؟ وما السبل التي يلجأ إليها عداؤون للإبقاء على سعيهم في المضمار ومواصلة الركض؟
يقول دين كرنازيس، أحد المتسابقين بماراثون إسبرطة، إن المرء لا يدرك مدى صعوبة الأمر إلا وقد استبد به الألم من أعلى رأسه إلى أخمص القدم، عندها لا يعول إلا على الجانب المعنوي، “إذ يشعر الرياضي بالإحباط وتتباطأ الخطى. ولكنني أمضي قدما رغم الصعاب، وحتى إن لم أقو على السرعة أواصل الحركة وليس لي إلا أن أدفع نفسي دفعا مواصلا السير”.
الجسم البشري لا يمكنه استنفاد الطاقة خلال العدو الماراثوني بنفس طريقة العدو القصير السريع لاختلاف سبل استنفاد الطاقة بينهما
ويشرح مارك بيرنلي الخبير الفسيولوجي بجامعة كينت الأساس العلمي وراء سرعة العداء في سباقات مختلفة بدءا من العدو لمسافات قصيرة وحتى الماراثونات الطويلة جدا.
ويؤكد وجود ثلاثة عوامل يتوقف عليها نجاح العداء في اجتياز المسافات الطويلة، أولها قدرة الجسم على الاستفادة من الأكسجين خلال الجهد الشديد، وثانيها السرعة القصوى التي يمكن للعداء بلوغها دون تراكم حمض اللاكتيك في جسمه، وثالثها مدى الاستفادة القصوى من وقود الجسم قبل استنفاده.
ويضيف “بتوافر العوامل الثلاثة معا يمكن للعداء اجتياز الماراثون بالسرعة المطلوبة”.
وأوضح “يستمد جسم الإنسان طاقته بإحدى طريقتين، إما عبر ما يعرف بالتمثيل الغذائي الهوائي بالاستعانة بجزيئات الأكسجين في الهواء، أو بالتمثيل اللاهوائي عبر عمليات نقل الطاقة بخلاف الأكسجين”. ولا يمكن للجسم البشري استنفاد الطاقة خلال العدو الماراثوني بنفس طريقة العدو القصير السريع لاختلاف سبل استنفاد الطاقة بينهما.
وطبعا يركض عداء الماراثون الفائق بسرعة أبطأ كثيرا عن أبطال الماراثونات العادية، فالعداؤون ينتهون من الـ42 كيلومترا الأولى من السباق في غضون ثلاث إلى أربع ساعات وبعد ذلك يكون أمامهم قرابة خمسة أمثال تلك المسافة، أي خمسة ماراثونات أخرى.
ويقول بيرنلي “تعتمد أقصى درجات التحمل على الحد مما يلحق بالجسم من أضرار خلال ذلك الحدث. في سباقات الخمسة آلاف والعشرة آلاف متر عدو، كثيرا ما نتحدث عن أهمية بلوغ سرعة معينة والحفاظ عليها، أما في سباقات التحمل القصوى فالهدف الأساسي هو استكمال المضمار”.
ويعني ذلك عمليا تغير السرعات بين مرحلة وأخرى في الماراثون فائق الطول بينما يسعى العداء “لمواصلة العدو بأقل جهد ممكن وبأكثر توفير للطاقة”، حسبما يقول بيرنلي.
وبالنسبة إلى الكثير من الرياضيين تمثل قدرة الذهن على التحمل المحك الرئيسي في المضمار.
وتشير أبحاث إلى أن نحو نصف مجتازي الماراثونات الفائقة يمرون بتغيرات عقلية كبيرة، إذ تقول كارلا مايين، الخبيرة النفسية الرياضية بجامعة سانت ماري بلندن، “قد يشعرون بتشوش وتخبط ما، ومع ذلك، الأمر المميز هو تلك القدرة على تنظيم إيقاعهم الداخلي”.
وأضافت أن ثمة أدلة على تمتع مجتازي اختبارات التحمل القصوى بمستويات أعلى من تحمل الألم، مضيفة، “لا نعرف تحديدا ما إذا كانت قدرتهم على تحمل الألم ناتجة عن تحديهم لأنفسهم من خلال تلك الاختبارات أم أنهم يولدون بهذه القدرة”.
تقول مايين إن مفتاح ذلك هو الاستعداد المسبق، بالتفكير قبل السباق في الخبرات السالفة والتعلم منها حتى يكون المرء مستعدا للتجاوب مع ما سيختبره قبل أن يحدث.
وخلال السباق نفسه، وبينما يلح عليك ذهنك بالتوقف لشدة الألم، عليك إلهاء نفسك والتفكير في أمر آخر، إذ توضح “ربما تفكر في الحاجة إلى المزيد من الغذاء، أو تفكر في كيف ستكافئ نفسك بعد انتهاء السباق”.
كما تقترح الاستعانة باستراتيجيات فعالة لتنظيم الإيقاع الذهني خلال السباق، مثل الحديث التحفيزي للنفس أو الاستعانة بطرق الاسترخاء.
وترى مايين أنه أيا كان ما يختاره المتدرب من وسائل، فعليه التدرب عليها مسبقا، وهكذا حين يبدأ الشعور بالتعب يكون بمقدوره استعادة حالة أكثر استقرارا.
ويحذر مدربو اللياقة المبتدئين أو المولعين بالركض لمسافات طويلة من الإسراف والمبالغة في ممارستها على المدى الطويل لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بالجهاز القلبي الوعائي.
وتوصلت دراسة دنماركية، نشرت في المجلة العلمية الأميركية المتخصصة “جورنال أوف ذا أميركان كوليدج أوف كارديولوجي”، إلى أنه يمكن الوقاية من التعرض لهذا الخطر من خلال ممارسة الرياضة “باعتدال”، كما حذر الباحثون الذين أجروا الدراسة من الركض السريع للغاية وأكدوا أنه لا يمكن الاستفادة من فوائد هذه الرياضة إلا عند ممارستها على ذلك النحو.
ويفضل الركض لمدة ساعتين ونصف أسبوعيا تقريبا، بحيث يتم توزيعها على أكثر من ثلاث مرات أسبوعيا. وتشير العديد من الدراسات التي أجريت في هذا المجال إلى الفوائد الصحية لممارسة الركض، لا سيما بالنسبة للمصابين بأمراض القلب والأوعية الدموية، ولكن عند ممارسته بشكل معتدل.
ويقول خبراء الصحة إنه يمكن الحد من الشعور بالضغط العصبي عند المواظبة على الركض، وإنها تساعد على تقوية العضلات والوقاية من الإصابة بهشاشة العظام، ناهيك عن دورها في إنقاص الوزن، الأمر الذي يساعد على الحد من خطر الإصابة بالأمراض الناجمة عن زيادة الوزن كالسكري مثلا.
يعني ذلك أيضا أن الإصرار على مواصلة الركض، رغم الشعور بالألم والإرهاق، يؤدي إلى عواقب شديدة الخطورة. لكن الملفت أن التحكم في الطاقة والجهد والاستعانة بمدربين أكفاء يساعدان على تدريب الجسم على سرعة التعافي عند التعرض للإصابات أيا كان نوعها.
تتابع دورا بابادوبلو، جرّاحة العظام والمستشارة الطبية الرياضية بمركز إعادة التأهيل الطبي الدفاعي بهادلي كورت بالمملكة المتحدة، عدائين منذ 10 سنوات وتقول إن أغلب الإصابات تتعلق بالقروح والشد العضلي وإصابات عضلية أخرى.
ورغم التكلفة الجمة لتلك الرياضات القاسية بالنسبة للجسم، أظهرت أبحاث قدرة الجسم على تجاوز محنته بسرعة، إذ تقول بابادوبلو إن دراسة حديثة أجريت على عدائي ماراثون إسبرطة أظهرت أن دم العدائين عاد خلال أيام لحالته الطبيعية بعد أن كان أشبه بحالة من قاربوا الوفاة بعد خوضهم السباق مباشرة.