المنظومة العشائرية المتخلفة "دولة" محمية بقوة القانون في العراق

تزداد الأعباء على العراقيين سنة بعد أخرى بسبب ضعف مؤسسات الدولة، وتفشي الفساد في القضاء، والمنظومة الأمنية، وبسبب فقرات تضمنها الدستور أعادت للعشائر وقوانينها هيمنتها على المجتمع، ما مهد لظهور شرائح اجتماعية متطفّلة، ومن بين هذه الشرائح ما سُمي بـ”شيوخ المشاكل”، و”السادة”، و”الفرائض”؛ مفردها فريضة وهو المبتكر لحلول عشائرية للمتخاصمين و”وجهاء العشائر”، و”الخيرون”؛ الأخيار.
وانتشرت في مدن كبغداد والبصرة ومعظم محافظات الوسط والجنوب الجلسات العشائرية، التي تتردد فيها كلمات ومصطلحات غريبة على ابن المدينة كـ”الفصل والعطوة والفجرية والتلوية، والحشوم، والدكة السودة والبيضة، والوّدي، وذباب الجرش، وغيرها”.
وصار على كل من يعيش في المدن الانتماء إلى عشيرة تدافع عنه، وتحميه عندما تهدده أي جهة، حتى لو كانت تلك الجهة من أجهزة الدولة.
ومن ليست له عشيرة أو من الأقليات الدينية الأخرى، كالمسيحيين والصابئة، أو من “الحضر” الذين لم ينزحوا إلى المدن من الريف، فعليه أن يقصد مقاهي خاصة يجلس فيها بعض هؤلاء لطلب مساعدتهم، لفض مشكلة ما تحولت إلى قضية عشائرية لقاء مبلغ مالي.
في مقهى منزو بمنطقة الأمين ببغداد جلس أبوناصر بانتظار زبون اتّصل به في الليلة الماضية، وطلب منه أن يطلب لهم “عطوة” من “عشيرة البيضان” لأن ابنه تسبب في كسر ذراع ابن جاره “البيضاني” في نزاع وقع بينهما.
قال أبوناصر لـ”العرب”، “لطلب العطوة (المهلة) أصول و’سنن’ (قوانين). أولها أن يكون حاملها ليس من عشيرة المعتدي، حتى لا يتعرض للاعتداء من المعتدى عليه للثأر من الجاني. وأن لا يذهب حامل ‘العطوة’ وحده بل يصطحب معه سيدا- من سلالة الرسول- وشاهدا من عشيرة ثانية، ليشهد على ‘العطوة’. وخلال فترة ‘العطوة’ يسير الجاني ‘بطوله’ (من دون خوف) من انتقام خصومه. وربما يأتي من طرف الجاني من يعزي أهل القتيل في المعزى، ويقرأ الفاتحة، وعلى أهل القتيل تقبل العزاء بأريحية لأن الخصم في فترة ‘عطوة'”. وأضاف أبوناصر “طالب العطوة عليه دفع مبلغ من المال يسمى ‘فرشة العطوة’ لا يتجاوز المليون دينار (الدولار يساوي 1188 دينارا) في المشاكل البيضاء؛ البسيطة، كالطلاق والمشاجرة، والدهس. وفي المشاكل السوداء، كقضية القتل أو الاعتداء على حرمة البيوت تسمى ‘دوسة فراش’ والاغتصاب و’النهيبة’ (هروب المرأة مع عشيقها). وعندها تتجاوز ‘فرشة العطوة’ 1 إلى 2 مليون دينار، كمصاريف للجلسة العشائرية وتنظيمها. ويكون ربع المبلغ لمن تطوع بالذهاب لحمل ‘العطوة’ وكذلك يكرمه ‘المفصول’ بمبلغ إضافي من المال بعد جلسة الصّلح”.
وأكد طالب شغاتي المحمداوي أحد شيوخ البومحمد “طلب العطوة فن لا يتقنه إلا القليلون، لأنه أول مبادرة من أهل الجاني، لجس نبض خصمهم، لمعرفة طلباتهم للجنوح للسّلم. و’العطوة’ لها رجالها المعروفون بالجنوب منذ القديم: كسيد سريوط الله يرحمه، والمرحوم سيد نوري الياسري ببغداد الجديدة، والحاج جابر شيخ عشيرة السواعد، وملا حسن شيخ عشيرة بني لام، وناصر السدخان شيخ البهادل وغيرهم”.
القاطنون في المدن أجبروا على الانتماء إلى عشيرة تدافع عنهم، وتحميهم عندما تهددهم أي جهة
وأضاف المحمداوي “وقبل شهر حملت طلب ‘عطوة’ لطبيب يسكن بمدينة الشعب. مات أحد المرضى من الذين أجرى لهم عملية، وطالب أهله الطبيب بفصل عشائري. الطبيب لم يقصر في واجبه، ولكن الرجل كان عزيزا عند أهله وعشيرته، وخافوا عليه من انتقام أهل المتوفى. عشيرة المتوفى من آل ازيرج، وأنا أعرف معرفة شخصية شيوخها، واستطعت أن آخذ ‘عطوة’ للطبيب لأسبوعين، ومددتها بعد ذلك إلى أسبوع آخر، ولا يسمح العرف العشائري سوى بتمديد واحد للعطوة. وعرفت من أهل المتوفى خلال ترددي عليهم مطالبهم. كانوا يطلبون بـ’فجرية’؛ فتاة للزواج، يتم تزويجها لأخي المتوفى، وأخرى ‘تلوية’؛ فتاة مؤجلة التزويج. وبعد مداولات استطعت أن أجس نبضهم، وطرحت عليهم فكرة تعويض النساء المطلوبة كفصل بالمال. ووضحت لهم أن استخدام النساء بالفصول والحشوم (الديات) يعتبر وفق القوانين اتجارا بالبشر، وحرمته المرجعيات الدينية، وأقنعتهم بهذا الحل، فاكتفوا بالمال كـ”فصل”.
وقال أبووليد (40 سنة) سائق تاكسي لـ”العرب”، “تعرضت قبل سنتين لحادث لم أكن المتسبب فيه، فقد صدمت سيارتي دراجة، وكُسرت ذراع سائقها. وقمت بالواجب. اصطحبته إلى مستشفى خصوصي بشارع فلسطين، وتم ‘تجبيس” ذراع الفتى. ودفعت مصاريف العلاج، وأوصلته إلى بيته، وظننت أن المسألة انتهت. ولكن في اليوم التالي جاء إلى بيتي رجل وقال لي: أنت مطلوب عشائريا. أرسلتني عشيرتي لأعلمك بـ’كوامتنا’ لكم، وعليكم بطلب ‘العطوة’ منا، لعقد جلسة عشائرية”.
وأضاف أبووليد “لم يكن لدينا اتصال بعشيرتنا، فقد نست عائلتنا موضوع العشائر، وبحثت عن شيخ لعشيرتنا، ولكن لم أهتد لأحد، ففكرت بتبليغ الشرطة لحمايتنا. فنصحني أحد الأصدقاء بعدم الذهاب إلى الشرطة لأن هذا سيعقد الموضوع، والشرطة لا تتدخل في مشاكل العشائر. ووصف لي مقهى بـ’الشعلة’ يجلس فيها شيوخ عشائر. وعلي أن أذهب إلى هناك وأطلب منهم مساعدتي في فض المشكلة، ولم ينته الموضوع إلا بدفع خمسة
ملايين دينار للمصاب، ومليونين للشيخ الذي أجرته”.
ووضح المحامي سعد الجبوري باحث اجتماعي متخصص، (موظف حكومي)، لـ”العرب” أن نشوء هذه الظاهرة كان “بسبب ضعف المؤسسات الأمنية بالعراق بعد العام 2003، حيث تحولت الدولة من دولة مؤسسات إلى دولة عشائر، أو ما نسميه بالإدارة المحلية في كل منطقة. وشجع على هذا أن معظم انحدارات سكان المدن بالعراق تعود إلى أصول ريفية”.
واستطرد الجبوري “ساهم دستور العام 2006 بمادته 45/ فقرة 2 في بروز دور العشائر مرة أخرى بشكل رسمي”، وأكد ضرورة النهوض بالعشائر لتطوير المجتمع بقوله “تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمها الإنسانية النبيلة، بما يساهم في تطوير المجتمع”، بينما كان قرار 24 لمجلس قيادة الثورة السابق لسنة 1997 ينص على أن “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات كل من أدعى بمطالبة عشائرية ضد من قام بفعل جنائي أو طالب بتنفيذ قوانين أو أمر صادر له من جهة أعلى”. وأضاف الجبوري أن “العطوة وسيلة بدائية يطمح حاملها لعقد الصلح بين طرفين، وهدفه الحقيقي الاسترزاق من المتخاصمين، كوسيلة للعيش، وهي نوع من البطالة المقنعة، وتقليد بائس في منظومة عشائرية متخلفة”.