"العدالة والتنمية".. تاريخ طويل من التلوّن والتنصّل من قضاياه

حزب العدالة والتنمية تنصل من كافة القضايا التي أعلن دفاعه عنها إلى درجة أنه لم تعد لديه بعد أيّ قضية يتبناها، وبات ملجأ الأغنياء الجدد في العالم البراغماتي والرأسمالي.
الاثنين 2018/10/29
شعارات للتسويق الإعلامي

بيهتار أوكوتان

حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا قطع على نفسه وعودًا بتنفيذ الكثير من الأشياء منذ قدومه إلى السلطة حتى يومنا هذا. فالحزب في محاولة منه للتوفيق بين الديمقراطية ونوعٍ من الإسلام، تبنى خطابًا ديمقراطيًا محافظًا واجه به الكتل العريضة من الجماهير، وغيرهم من المحاورين الدوليين.

وحزب العدالة والتنمية في خامس عام له بالسلطة استطاع أن يتغلب على مسألة الحجاب في الجامعات. غير أنه كان سيحتاج إلى ست سنوات أخرى من أجل حرية ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة. لكن شهد شهر أكتوبر من العام 2013، حل خلاف كبير. غير أنه قبل هذا التاريخ بأربعة أشهر وتحديدًا في شهر يونيو من العام ذاته خرجت واحدة من كتلة المحافظين بكذبة، تم الدفاع عنها من على منصة البرلمان. وهذه الكذبة يمكننا سردها على النحو التالي كما سردتها بطلتها لصحافية منتمية إلى حزب العدالة والتنمية، حيث نقلت السيدة إلى الصحافية أحداث ذلك اليوم الذي زعمت فيه تعرضها لاعتداء:

“لقد لاحظت وجود ازدحام في منطقة قابا طاش. فاعتقدت أن هذا التجمع دعم لمظاهرات منتزه غزي. فعبرت إلى الجهة الثانية وفي يدي عربة بها طفلي. وبدأت الانتظار هناك. وفي لحظة سمعت أصواتًا تردد هتافات تدعو إلى الهجوم عليّ. فنظرت خلفي فإذا بي أجد مجموعة من النساء تتراوح أعمارهن بين 25 و30 عامًا، ينظرن إلي وكلهن حدة وغضب. وأدركت حينها أيضًا أنهن يتحدثن عني. وفي اللحظة التي لم أستطع فيها أن أدرك ماذا يحدث من حولي، وجدت نفسي بين مجموعة من الرجال يتراوح عددهم بين 70 و100 شخص، لا يرتدون شيئًا على الأجزاء العلوية من أجسادهم، لكن في أيديهم قفازات جلدية. وفي هذه اللحظة فقدت السيطرة على عربة الطفل التي كنت أدفعها بيدي. وعندئذ قالت سيدة وسط هذا الزحام ‘أي شيء حل بهذا البلد كان بسبب هذا الحجاب، فلتضربوا هذه’، حينها بدأ رجل يسدد لي اللكمات، والركلات من الخلف. وفيما بعد بدأت المجموعة تصيح بصوت مرتفع.

أخذوا يرددون هتافات قالوا فيها إنهم قاموا بثورة، واحتلال، وإنهم لن يسلمونا الدولة، وسيعدمون رجب طيب أردوغان، وكذلك نحن. وقالوا كذلك إنهم الأصحاب الفعليون للدولة. وكانوا من ناحية أخرى يسددون إليّ اللكمات، بل أخذوا يقولون ‘هذا هو الحجاب المقدس، انظروا ماذا سنفعل به’. وأخذوا في ذات الوقت يسبونني بأقذع الشتائم التي لا يمكن أن تخطر على بالكم، وواصلوا ضربي دون توقف. وتابعوا صياحهم قائلين ‘سنعدم أردوغان، هل فهمتِ؟’. حقيقة لا أدري كيف أقول لكم ما الذي قالوه حرفيًا من شتائم وسباب ما أنزل الله به من سلطان.

وفي هذه الأثناء كان هناك رجل كبير أعتقد أنه كان يريد التدخل للدفاع عني. لكنهم أوسعوه ضربًا مبرحًا هو وابنته. وبعد ذلك رحلت هذه المجموعة باتجاه ملعب ‘إينينو’. وفي هذه اللحظة فقدت الوعي تمامًا، ولا أتذكر ما جرى بعد ذلك. ولما استرددت وعيي، كانت ملابسي تفوح منها رائحة البول. فنهضت من مكاني وكل همي أن أعثر على طفلي. وبحسب ما قيل لي فإن عددًا من الأشخاص الذين ضربوني، قد تبولوا علي. وظلت هناك امرأة تصيح ضد الحجاب، فحاولت أن أهرب من المكان زحفًا لكني فشلت. وعندما نظرت إلى الوراء نحو من اعتدوا علي جنسيًا، وضربوني، وشتموني، وجدتهم يمسكون في أيديهم زجاجات جعة (بيرة). وكانوا يحتسونها وهم يقرعونها ويطلقون قهقهات عالية ويضحكون”.

ورغم ما قالته السيدة أعلاه، اشتهرت هذه المرأة والصحافية التي نقلت عنها هذه الرواية بأنهما “كاذبتا منطقة قابا طاش”.

وبعد عامين كاملين على هذه الواقعة غردت الصحافية التي قصت لها السيدة حكايتها، وقالت في هذه التغريدة “لقد تعرضت للخديعة، والغفلة، وقلت عما لم يحدث إنه حدث، وقلت شاهدت وأنا لم أشاهد شيئًا. فهلا عفوتم عني يا أصحاب الفضيلة”. لكن لم تحل المصيبة الكبرى على رأس هذه السيدة “الضحية”، بل حلت على رأس حزب العدالة والتنمية الذي أكل أبناءه وقضيته.

على كل لقد حدث ما حدث. ونجح ذلك الحزب في جعل مسألة الحجاب وسيلة للاستقطاب. ولا مانع عنده من أن يسوق الأكاذيب، ويدافع عنها كواقعة المرأة المذكورة، كي يحقق ما يريد ويصبو إليه. لينتقل بذلك وبسرعة لا مثيل لها من “مدافع عن القضية المقدسة” إلى الدفاع عن الكذب والافتراءات.

الحزب لم تكن ردة فعله تصديق هذه الكذبة، وإنما كان هدفه الرئيسي أن تشتعل مسألة تصفية الحسابات، والكراهية التي يضمرها في صدره تجاه الجمهورية. فرغم عدم وجود قضية حجاب يناضل من أجلها، إلا أنه تم تسويق قضية هذه المرأة “الضحية” بشكل جيد، واستغلالها أفضل استغلال.

ولا ننسى أنه قبل هذه الأحداث بثلاث سنوات كاملة، أي في العام 2010، وجد نظام العدالة والتنمية قضية أخرى استخدمها كذلك كوسيلة للاستقطاب، ألا وهي قضية سفينة “مافي مرمرة” التي اعترضتها القوات الإسرائيلية أثناء اتجاهها لفك الحصار عن قطاع غزة الفلسطيني، وقتلت هذه القوات 10 نشطاء أتراك كانوا على متنها ضمن مجموعة تترأسهم هيئة الإغاثة والمساعدات الإنسانية “إي ها ها”. إذ تعرضت السفينة للهجوم من قبل قوات الكومندوس الإسرائيلية، وهي لا تزال في المياه الدولية.

لكن بعد مرور 6 سنوات على الواقعة، تغيرت أشياء كثيرة، وخرج رئيس الوزراء آنذاك (في إشارة إلى الرئيس رجب طيب أردوغان حينما كان رئيسًا للوزراء)، ليتحدث إلى من نظموا رحلة سفينة “مافي مرمرة” قائلًا “هل استشرتم رئيس الوزراء آنذاك من أجل نقل المساعدات الإنسانية من تركيا؟ فنحن في حقيقة الأمر قدمنا الكثير من المساعدات لغزة، وفلسطين، وما زلنا نقدم الكثير قدر استطاعتنا. وما كنا نقوم بذلك من أجل الاستعراض أمام جهة ما أو ما شابه، كل ما قمنا به كان في إطار الدبلوماسية الدولية، وهذا الأمر سنستمر عليه ولن نحيد عنه”.

وبعد أن دفعت إسرائيل 20 مليون دولار “دية الدم” أُغلق الموضوع تمامًا في صمت مطبق. ولم يبد للعلن من أخذ ومن أعطى. وآخر مشهد من هذه “القضية المقدسة” التي يزعم حزب العدالة والتنمية أنه يدافع عنها، هو اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارتها إليها. ولا جرم في أن اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل، كان قد تم منذ سنوات، لكن الاعتراف الرسمي كما فعل ترامب، ونقله السفارة إلى المدينة، أنهيا مرحلة الاعترافات السابقة التي لم تنفذ على أرض الواقع وظلت مجرد حبر على ورق.

وهكذا  انتهت تمامًا أحلام تحقيق السلام في المنطقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

ولم تخرج ردود الأفعال التركية حيال الموقف الأميركي من القدس، ونقل سفارتها إليها، عن مجرد احتجاجات نظمت عند أبواب المساجد. وبذلك خبأت “نار فلسطين” التي اتقدت في صدور “الإسلاميين الديمقراطيين المحافظين” في تركيا.

ولم تكن هاتان القضيتان الوحيدتين اللتين تنصل منهما حزب العدالة والتنمية، ولم يدافع عنهما كما ينبغي، إذ أنه تنصل من كافة القضايا تقريبًا التي سبق أن أعلن دفاعه عنها إلى درجة أنه لم تعد لديه بعد أيّ قضية يتبناها، ذلك الحزب الذي بات ملجأ الأغنياء الجدد في العالم البراغماتي والرأسمالي.

6