المكدوس مؤونة السوريين أيام العوز والرخاء

المكدوس يُعيد لم شمل العائلات السورية ويجمعها حول مائدة واحدة، سواء أثناء إعداده وتحضيره أو خلال تناوله.
الأربعاء 2018/10/17
مكدوس الباذنجان السوري بالجوز البلدي وزيت السلقيني

دمشق – اشتهر السوريون بتحضير المؤن الغذائية وفي مقدمتها المكدوس الذي يزين مائدة السوريين، ويطلق عليه مكدوس الباذنجان أو المكدوس السوري (الشامي)، ويعود بجذوره إلى مدينة حلب، التي أتقن أهلها صناعته وتفننوا فيها وعملوا على تطويرها وتحسين مذاقها.

تجتمع عائلة نزار حول مائدة وُضع عليها الجوز والزيت والباذنجان وبعض البهارات الأخرى، وهو يحضّر مع زوجته دانية مؤونة الشتاء من طعام المكدوس الشعبي، بينما يكتفي والداه بالمشاهدة والتذوّق.

وأحضر نزار زنبوعة هذه السنة الجوز البلدي من الغوطة الشرقيّة للمرة الأولى منذ بدء النزاع، لكنّه لم يحصل على الزيت “السلقيني” الذي كان يأتي من ريف إدلب، وعوّضه بنوع آخر من الساحل السوري.

يقول نزار (43 عاما) “أثّرت الحرب على كل تفاصيل الحياة، ووصلت آثارها إلى موائد الطعام (..) قبل بدء الأزمة كنّا نحشو المكدوس بالجوز البلدي والزيت الطبيعي، ونحضّر أكثر من خمسين كيلوغراما”. أما خلال سنوات الحرب فقد “أبدلنا الجوز بالفستق لأنه أقل كلفة، وأحيانا اكتفينا بحشوه بالفليفلة الأرخص ثمنا”.

لم يفارق صحن المكدوس مائدة هذه العائلة حتى في سنوات نزوحها عن منزلها، بل بقي طبقا رئيسيا على مائدة الفطور أو العشاء.

ويتابع نزار الذي يعمل سائقا في إحدى المنظمات الدولية، ويعاون زوجته في إعداد مؤونة الشتاء، “المكدوس يُعيد شمل العائلة ويجمعنا حول مائدة واحدة، سواء أثناء إعداده وتحضيره أو خلال تناوله”.

وعن آلية تحضيره تقول أم نزار “نقوم بسلق الباذنجان في الماء داخل قدر كبيرة بحيث يترك الباذنجان على نار درجة حرارتها مرتفعة حتى الغليان، ويسلق لمدة 20 دقيقة تقريبا، في المقابل لا يجب أن نبالغ في سلق الباذنجان حفاظا على تماسكه وقوامه. ثم نرفع الباذنجان على المصفاة ونتركه يبرد”.

وتضيف أم نزار وكأنها تقدم درسا نظريا مفصلا لزوجة ابنها “بعد ذلك نأخذ كل حبة باذنجان على حدة ونشقها بالطول في منتصفها، ثم نقوم بملء الشق بربع أو نصف ملعقة صغيرة من الملح، ويستخدم الملح لحفظ الباذنجان لمدة طويلة، بعد ذلك نرتب حبات الباذنجان على مصفاة تحتها وعاء بحيث يكون الشق بالأسفل في صورة طبقات ومن ثم نقوم بتغطيته بطبق مسطح صغير حتى يتخلص الباذنجان من الماء الموجود فيه، ويترك الباذنجان على هذه الحالة لمدة 12 ساعة في مكان بارد حتى يجف من الماء تماماً، وفي اليوم التالي تصبح حبات الباذنجان جافة ورقيقة”.

تحضير المكدوس درس تتعلمه الأجيال
تحضير المكدوس درس تتعلمه الأجيال

وتؤكد على خبرتها الطويلة في إعداد المكدوس، “في المرحلة التالية، نحضر الحشوة وهي تتبيلة من الفليفلة الحمراء، نضيف إليها الجوز المفروم لحبات صغيرة والثوم المهروس ونصف ملعقة كبيرة من الملح ثم نضع تلك الحشوة في الباذنجان، ثم نضعه في برطمان زجاجي مناسب، ونغمره بزيت الزيتون بصورة كاملة، ويترك على هذه الوضعية مدة 21 يوما حتى يستوي تماما ويصبح جاهزا للتقديم”.

ويعد هذا الصنف من الطعام أحد أكثر أنواع المؤونة السورية انتشارا، فهو من الأطعمة التي يتوارثها السوريون جيلا بعد جيل، حيث رافقهم في حياتهم في الشح والرخاء، ويبدأ تحضيره عادة في شهر سبتمبر من كل عام، تزامنا مع زراعة الباذنجان.

وجرت العادة على أن تحضّر العائلة السورية كميّة تكفي لعام كامل من هذا الطعام المكوّن من الباذنجان المحشو بالجوز والفليفلة والثوم والبهارات، والذي يوضع داخل وعاء زجاجي ممتلئ بالزيت، ويقدّم عادة إلى جانب أصناف الفطور الصباحي مثل الألبان والأجبان والزعتر مع كأس من الشاي.

يقول مأمون حجازي -أحد بائعي المواد الغذائية- إن المؤونة السورية تندرج في إطار سياسة التدبير المنزلي ومكدوس الباذنجان يتصدر هذه المؤن التي كانت الجدات تدخرها ضمن غرفة عرفت باسم “بيت المونة”.

ويضيف حجازي أنه من خلال بيعه للمواد الغذائية طيلة ثلاثين عاما لاحظ حب السوريين للمكدوس من خلال إقبالهم على شراء الباذنجان والجوز بكثرة بهدف تحضير المكدوس وادخاره لفصل الشتاء. طريقة عمل المكدوس السوري انتشرت انتشاراً كبيراً في جميع الدول العربية وحتى تركيا، لأن هذه الأكلة لذيذة وشهية وتصلح لأن تحل محل وجبة الإفطار أو وجبة العشاء.

ولم يسلم هذا الطبق من آثار الحرب، بعد أن فقد نكهته جراء فقدان مكوّناته الرئيسية، إذ اعتاد سكان دمشق على جلب الجوز من بلدات الغوطة الشرقيّة، وهو ما لم يكن ممكنا طيلة سنوات الحرب، فيما تشتهر بلدة سلقين في ريف إدلب ومدينة عفرين في ريف حلب، بالزيت الذي يفضّله السوريون مع هذه الأكلة الشعبية، وهما الآن منطقتان خاضعتان لسيطرة فصائل معارضة.

في بلدة زبدين في الغوطة الشرقيّة، يأسف المزارع أنس المصري حين ينظر إلى بستانه وقد ذبل الشجر فيه، ومات الكثير منه، إلا أن حزنه يتضاعف حين يُعاين شجر الجوز الذي حُرق الكثير منه، وتم قطع الباقي بهدف البيع أو التدفئة أو التجارة في السنوات الماضية.

يقول وهو واقف إلى جانب واحدة من أشجار الجوز المقطوعة “عمر هذه الشجرة 300 سنة، هذه الأرض تشتهر بزراعة أشجار الجوز، لكنّه لم يعد موجودا اليوم إلا بعدد قليل جدا”.

في مطبخ عائلة زنبوعة تضع دانية قفازات وتشرع في إعداد الطعام، وتقول “عاد المكدوس إلى مائدتنا، لكنه ما زال يفتقر إلى جوز الغوطة وزيت إدلب… وهو من الأشياء القليلة التي يجمع عليها السوريون في الداخل والخارج، موالين ومعارضين”.

20