إعادة تسويق السادات بمناسبة ما يسمى "وثيقة القاهرة"

لو صحت "وثيقة القاهرة" فلماذا لم تعلن آنذاك، لتبرئة ساحة السادات، في عنفوان الحملة عليه ووصمه بخيانة لا تزال تلاحقه كلعنة، وما ترتب على تلك العاصفة من استبعاد مصر من جامعة الدول العربية.
الخميس 2018/09/27
الوقائع تقول إن السلام الساداتي كان منفردا

ابتعادي عن القاهرة هذا الأسبوع، وانقطاعي عن التواصل مع وسائل إعلامها المرئية والمقروءة، حال دون الاقتراب من ردود فعل إعلامية مصرية ساداتية على “وثيقة القاهرة” التي نشرتها الهيئة العامة للاستعلامات قبل أيام، وتقول إنها تؤسس لحكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفقا لاتفاقيات كامب ديفيد، بين مناحيم بيغن وأنور السادات وجيمي كارتر. ولكني لاحظت في صورة منشورة لإحدى صفحات الوثيقة التي تحمل أسماء ثلاثي كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978، أن الرقم 8 ربما كان 9 وتم إصلاحه إصلاحا غير متقن، بيد غير خبيرة في التزوير؛ لكي يتسق مع توقيت الكامب، وهذه “الوثيقة” مكتوبة بالعربية التي يجهلها بيغن وكارتر ولا تحمل توقيع اسميهما بخط اليد.

وقبل قراءة مضمونها الذي يستهدف لوم الضحايا الفلسطينيين، وسوس إليّ الشيطان باحتمال اصطناع الأمر آنذاك تفاديا لصرامة حكم التاريخ، وتذكرت واقعة تالية لم ينطق الشاهد عليها بالحق، ولو بتكذيب بطل الرواية في قبره.

راوي الواقعة هو محمد حسنين هيكل في ذمة الله، والشاهد عليها حي يرزق من وسع، وهو مصطفى الفقي سكرتير الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك للمعلومات، وحظي بعدة مناصب دبلوماسية وبرلمانية قبل ثورة 25 يناير 2011، ويعمل حاليا مديرا لمكتبة الإسكندرية. وقد ذكر هيكل في كتابه “مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان” أنه تلقى اتصالا من مبارك، بعد نشر أخبار عن سفره للقاء الملك حسين، لجمع مادة كتابه “حرب الخليج: أوهام القوة والنصر”، وسأله “لماذا الملك حسين؟”، فأوضح أن الملك هو الوحيد الذي ظل على علاقة بأطراف الأزمة في واشنطن ولندن وبغداد “منذ غزو الكويت حتى ضرب العراق”، فقال له مبارك “أنت على خطأ… أنا الذي ظل على اتصال بالجميع من أول لحظة حتى آخر لحظة”، وأخبره هيكل أن الملك حسين سيتيح له حرية الاطلاع على كل الملفات. وبعد ثلاثة أيام من لقاء الملك، اتصل مبارك بهيكل، وسأله عما إذا كان الملك كذب عليه، وروى ما يسوّغ به موقفه في أزمة الخليج. وفاجأه مبارك بالسماح له بقراءة ملفات الرئاسة “السرية”، على أن يرسل مع مصطفى الفقي إلى هيكل جزءا للاطلاع لا للتصوير، وكلما فرغ منه يذهب إليه بجزء جديد.

بدأ هيكل قراءة الدفعة الأولى من الوثائق، في حضور سكرتير الرئيس، ثم قال للفقي إنه يكتفي بقراءة ما اطلع عليه، “لا أطلب مزيدا يحمله إليّ كل يوم”؛ إذ خلص إلى شعور يرقى إلى الحقيقة، وصارح به ضيفه الذي أدهشه عزوف هيكل عن الاطلاع على “الوثائق”، قائلا إنه كرجل تعود النظر في الوثائق فإن “ما قرأت من مسيرات الرئاسة، جعلني أشعر أن هذه المسيرات مكتوبة بأثر رجعي، أي بعد الحوادث وليس أثناءها، وهذا يفقد المسيرات قيمتها”؛ فالأهمية القصوى للوثائق أن تسجل ما يجري أولا فأول، وإذا كتبت بعد ذلك، فهي “محررة بتوجيه”؛ من أجل رسم صورة قد تخالف الحقيقة. وقال الفقي وهو يغادر المكتب “أستاذ هيكل.. لا تعتمد في ما تكتب إلا على ما تثق فيه، ولا تسألني أكثر من ذلك!”

لو صحت “وثيقة القاهرة” فلماذا لم تعلن آنذاك، لتبرئة ساحة السادات، في عنفوان الحملة العربية والمصرية عليه ووصمه بخيانة لا تزال تلاحقه كلعنة، وما ترتب على تلك العاصفة من استبعاد مصر من جامعة الدول العربية، وعزلها عن محيطها العربي الذي توقعه وزير خارجية مصر إسماعيل فهمي، وحذر منه السادات قبل سفره إلى فلسطين المحتلة في نوفمبر 1977، ولكن السادات بدا مستلبا إلى سيناريو أعده له مؤلف يعرف شغفه القديم بفن التمثيل، فلم ينصت إلى نصيحة الوزير الذي لم يتردد في الاستقالة، وتبعه وزيران للخارجية هما محمد رياض ومحمد إبراهيم كامل الذي استقال في كامب ديفيد، عشية توقيع الاتفاقية التي تتضمن هذه “الوثيقة”، وهي تحمل، بناء على ما أتمتع به من بصر معقول، بصمة تصويب يؤخر عقارب الساعة سنة كاملة من 1979 إلى 1978، بسبب نقص مهارة “المحرر”.

ليس في “الوثيقة” ما يمثل تهديدا للأمن المصري، لكي يؤجل الإعلان عنها 39 سنة، لنقل 40 سنة حسب المعلن عن تاريخها، فلماذا تم التكتم عليها طوال هذه الفترة؟ لا أظن هدف التأجيل أن تنال الوثيقة بعد كل هذا الوجع صفة “التاريخية”، فمضمونها “كلام كالكلام”، كما وصف طه حسين الشعر والأدب المتخم بالثرثرة ولا يقول إلا المألوف. فما معنى كل هذه “الينبغيات” “يجب أن، ينبغي أن، سيتطلب”، بعد توقيع اتفاق ثنائي حمل مصر إلى معسكر الولايات المتحدة، ورهنها بضبط الساعة على التوقيت الإسرائيلي الأميركي، وإلى من يتوجه رئيس الدولة الحاكمة، التي قال السادات إنها تمتلك 99 بالمئة من أوراق “اللعبة”، بهذا البيان الحاشد بمثاليات تدعمها “ينبغيات” فارغة من المعنى؟

الوقائع تقول إن السلام الساداتي كان منفردا، وإن وفد العدو قبل مباحثات فندق مينا هاوس في ديسمبر 1977 اشترط أن يُستبعدَ علم فلسطين، ثم رفض وفد العدو دخول فندق فلسطين بالإسكندرية، وكان مجهزا للمباحثات، لأنه يحمل اسم فلسطين. ولكن بيغن أصر على عقد المباحثات الخاصة بالحكم الذاتي الفلسطيني في القدس التي يراها الصهاينة عاصمة أبدية لدولتهم.

استقرت وقائع التاريخ، كما جرت لحظة بلحظة، وليس كما حاولت آلة السادات السياسية والإعلامية تسويقها، على أن مخاطرة السادات أعادت سيناء شكليا وفقا لاشتراطات قاسية، ولكنها فرقت إلى الأبد الداعمين الدوليين للقضية الفلسطينية، من أميركا اللاتينية إلى الصين مرورا بأفريقيا التي فتحت أبوابها وأسواقها لإسرائيل، وليس منطقيا أن تستمر المقاطعة بعد توقيع “السلام” بين أعداء “قدامى”، ولن يكون المتعاطف أكثر إخلاصا للقضية من صاحبها.

وإذا كان مجلس الشيوخ الأميركي، بمناسبة مرور أربعين عاما على كامب ديفيد، قد أجمع في 23 أغسطس 2018 على مشروع قانون لتكريم أنور السادات، بمنحه وسام الكونغرس الذهبي، فإن على إسرائيل أن تصنع له في مطار بن غوريون تمثالا يستقبل يهودا مشمولين بحق العودة، وتنتظرهم جنسية آخر دولة استعمار في العالم، ولا أستبعد أن يزود بلوحة إرشادية “هذا ثاني أهم شخصية مؤثرة في بناء إسرائيل”.

8