ماذا نعلِّم؟

ماذا ننقل إلى الأجيال الجديدة؟ سؤال طرحته مجلة “العلوم الإنسانية” في عددها الأخير على بعض المفكرين الفرنسيين بمناسبة العودة المدرسية، فكان ردّ عالم الاجتماع إدغار موران “التبصّر” أي النظر في المسائل مَليّا واستقصائها من جميع جوانبها، والتروّي في نقضها أو تبنّيها، إذ لاحظ غياب تعليم ماهية المعرفة وعُدّتها المفاهيمية ونقائصها وصعوباتها، فالمعرفة في رأيه ليست صورة موضوعية عن الواقع، جاهزة للاستعمال، بل هي مسار ترجمة وإعادة بناء، لا نأمن الخطأ عند مقاربته، لاحتواء كل خطاب أو تواصل على احتمال الوقوع فيه، ومن أوكد الواجبات أن يعرف المرء مصادر أخطائه وأوهامه. وأضاف ثيمة أخرى ينبغي إدراجها هي فهم الآخر دون احتقاره، في عصر أضحت الشعوب فيه على اتصال دائم بثقافات العالم، حتى يدرك المتعلم أن الآخر مماثل ومختلف في الوقت ذاته.
أمّا فيليب ميريو، الخبير في الشؤون التربوية، فأجاب أن مسألة النقل تحيل في الظاهر إلى إشكاليتين مختلفتين، إشكالية المحتويات الثقافية والمعرفية التي ينبغي اكتسابها، وإشكالية القيم التي ينبغي تبنيها، والحال أنهما غير منفصلتين، لأن نقل المعارف ليس محايدا، بل يحتوي على قيم ظاهرة أو باطنة، لا تتم من دون وساطة العلوم والتجذر في تاريخ ما. أي أن أهم شيء في التربية هو الرابط الذي يوحّد المعارف والقيم، فلا يمكن أن نروّج لشعار الجمهورية -حرية، مساواة، أخوّة- دون أن نكوّن النشء على حرية التعبير والفكر، ومقاومة الظلم والتنافس المحموم. أن نعلِّم الرياضيات والفيزياء والكيمياء دون الحرص على الصرامة عن طريق الممارسة التجريبية والحجاج، هو إفراغ لتلك المواد من محتواها والقبول برؤية أطفالنا منبهرين بنظريات المؤامرة.
ولكن الفيلسوف جاك رانسيير اعتبر أن كلمة “نقل” مضللة، واستشهد بأفلاطون الذي سخر من طالب علم كان يلتصق بسقراط لكي لا يضيّع شيئا من دروسه، قائلا: لا شيء يمرّ من عقل إلى عقل. في ما يُعرف بالنقل، توجد علاقة بين مغامرتين ثقافيتين، فمغامرة المدرّس تقتضي استثارة من يتلقون درسه كي يجيبوا، ويتخيروا طرقهم الخاصة في التعلم. هي مسألة أساسية بالنسبة إلى الأفراد، إذ بإمكانهم، سواء عن طريق درس سمعوه، أو تمرين اقتُرح عليهم، أن يغتنموا فرصة منطلقات جديدة ومسارات غير مسبوقة على طريق المعرفة، قد تجعلهم أفرادا متفتّحين يقررون أن توضع تلك القدرة التي يملكها الجميع موضع التطبيق.
وأيا ما تكن الآراء فالخير في أن يتعلم النشء على نحو لا يكون فيه خاضعا لمصير اجتماعي، على رأي مارسيل غوشي.