الهيبة ليست تضييقا على الحريات

القاهرة – تلجأ بعض الحكومات إلى الخلط بين هيبة الدولة، وبين التضييق على الحريات، وتتخذ من الاعتداء الثانية ذريعة للحفاظ على الأولى، مع أن العكس هو الصحيح. فتوفير الأجواء المناسبة لممارسة الأولى، هو المدخل الحقيقي لحماية الأنظمة ومواجهة التحديات.
من يدقق النظر في الدول التي ترفع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفقا لضوابط قانونية، يجدها الأكثر قوة ونفوذا وحضورا واحتراما، وحتى الدول الكبيرة التي لها هيبة وتتقلص فيها مساحة الحريات، مثل الصين وروسيا، تتعرض لضغوط متعاظمة تجبرها أحيانا على المساومة وقبول الرضوخ في قضايا مصيرية، وتجعلها لا تستطيع التفاخر بعدّ الأنفاس على مواطنيها بالليل والنهار.
بالطبع هناك خصوصية لكل دولة في تحديد هامش الحركة المتاح، حسب الصعوبات التي تواجهها، لكن لم يعد التضييق وسيلة لوأد الأزمات أو سد المنافذ على الخروقات، لأن هناك مساحة بطول العالم، شرقه وغربه وشماله وجنوبه، اسمها شبكة الإنترنت، يمكن التعامل معها بأقل إمكانيات ليمارس من خلالها كل شخص الحرية على طريقته.
لم تفلح الأدوات التي تستخدمها حكومات مختلفة في غلق المجال العام أمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي في تقليص الحرية، لأنه كلما تم حجب مواقع خرجت العشرات، وكلما جرى منع وسيلة من وسائل التواصل الحديثة اخترعت برامج تخترقها بقوة التكنولوجيا، بمعنى أن الحجب والمنع غير موجودين في الواقع.
في مصر مثلا، أدى التضييق الحاصل في الفضاء العام، على المستوى السياسي والإعلامي والثقافي، إلى زيادة من طرقوا أبواب مواقع التواصل. لم تحل نسبة الأمية المرتفعة دون اتساع عدد من يتعاملون مع الشبكة العنكبوتية ليمارسوا أعلى درجات الحرية، بل وصلت إلى حد الانفلات، ما أشاع أنواعا من الأمراض المجتمعية، فالفوضى بلغت حدا تصعب السيطرة عليه.
يعتقد بعض الخبراء أن ثمة علاقة طردية بين الحريات وكثافة الإقبال على مواقع التواصل والتفاعل معها، فإذا لم تكن توجد قنوات شرعية تمكن كل شخص من التعبير عن آرائه، من الطبيعي اللجوء إلى قنوات خلفية، فما بالنا إذا كانت الأخيرة متوافرة بكثرة مثل مواقع التواصل الاجتماعي؟
لدى بعض الحكومات مبررات تسوقها للرأي العام، تضع استهداف الدولة والديمقراطية في كفة واحدة، قد تكون هناك جهات تستغل الثانية في الإضرار بمصالح الأولى، لكنه ربط تعسّفي يمنح الأجهزة الرسمية فرصة للإمعان في غيها الأمني، وهو ما تعتمد عليه في تفسير استهدافها لبعض الأشخاص.
إذا أرادت أي جهة ضبط إيقاع ما يمكن وصفه بـ”الفوضى الهدامة”، عليها أن تلجأ إلى أساليب علمية لبناء المجتمع، وإعلاء قيم الحريات بأشكالها المختلفة، ليصبح لديها مواطنون حريصون على مصلحة البلاد، ومسؤولون يعملون بنزاهة ومن دون مساس بحرية العباد.
قامت الحكومة المصرية بخطوات متدرجة خلال الفترة الماضية لتأميم المجال العام، بغرض إسكات جميع الأصوات المعارضة لرؤاها السياسية. وأعادت رسم خارطة وسائل الإعلام بصورة تسيطر عليها من المنبع. ووضعت على رؤوس المؤسسات التابعة لها قيادات تنفذ التعليمات.
بلغ بهم الحذر حد تطوعهم بزيادة جرعات التضييق، دون أن تصدر لهم تعليمات، خوفا من الوقوع في الخطأ وزيادة في الاحتراز. يتصرفون بطريقة يعتقدون أنها أكثر أمنا، ما اضطرهم إلى المبالغة في زيادة قائمة الممنوعات السياسية.
امتدت تجربة تأميم المجال العام إلى إسناد إدارة معظم الملفات ذات الطابع السياسي والثقافي، مباشرة في يد دوائر أمنية، وتمكنت من وضع يدها مثلا على معظم وسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص. ولم تكتف بما يقوم به أصحابها من ولاء تام لها، وقامت بتأسيس شركات للهيمنة على الأذرع الإعلامية، من صحف وموقع وفضائيات.
وصلت حدود التأميم حد سن قوانين للتضييق على المواقع الإلكترونية الصحافية، ووضع الحسابات الشخصية للأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي تحت سيف المراقبة.
فشلت هذه الإجراءات في السيطرة على مفاتيح الفضاء العام، وأفرزت مشكلات جانبية أصبحت تمثل تحديات دقيقة أمام الحكومة. ولم تفلح الأبواق التابعة لها في إقناع المواطنين بالإنجازات التي تتحقق فعلا على الأرض، وكثرت الشائعات حولها، ووجد قطاع كبير من المواطنين في الإعلام الجديد بابا يرضي غرورهم.
تسبب الإقبال بكثافة على مواقع التواصل والسخرية من الحكومة ومسؤوليها ورصد كل تحركاتهم وتحويلها إلى طاقة سلبية، في ضرر بالكثير من التوجهات الرسمية. لم تنجح عملية تحزيم الحريات في منع الحكومة من الوقوع في ورطات سياسية.