مصر: معركة الوعي تنهي التبعية والاستبداد

الخيار العاقل الآن هو تأسيس وعي حقيقي في معركة طويلة النفس، وأما الاكتفاء بإفراغ شحنات الغضب في سباب فيسبوكي مضاد فلا يفيد أحدا، ويوحي بانتصار زائف على خصم فوق مستوى السلطات.
الثلاثاء 2018/09/18
أجيال متعاقبة تدفع أثمانا باهظة للخلاص

الثنائية الأكثر دقة للنصف الأخير من العنوان هي “الاستعمار والاستبداد”، فمنذ القرن التاسع عشر نُعاني كلا الخطرين. تدفع أجيال متعاقبة أثمانا باهظة للخلاص من الأول، وقبل أن تبرأ جراحها تفاجأ بالانزلاق إلى شراك الثاني. وقد شهد العالم العربي استبدادا “وطنيا” يعلن العداء للاستعمار، ولا تلبث سياساته القمعية أن تستدعي غزاة يمتطون الدبابات. ولا يميل الاستعمار، في نسخه الأخيرة، إلى المغامرة الميدانية بالجنود، ويستبدل بالصيغة القديمة كلما استطاع ألوانا من التبعية، فيكتفي بالتحكم عن بعد في مصائرنا، تحت راية الديمقراطية.

لم يكن التخلص من صدام حسين ومعمر القذافي بدافع الانتصار لأشواق الشعوب إلى الحرية، وإنهاء الاستبداد، فما أكثر النفاق الغربي المتواطئ مع دكتاتوريات تؤدي دورا محددا، وكان القذافي يُستقبل بحفاوة بالغة في باريس وروما وغيرهما، وظل حسني مبارك حتى أيامه الأخيرة في الحكم “كنزا استراتيجيا” لإسرائيل، ومن قبله أدى الشاه محمد رضا بهلوي دور “شرطي الخليج” بكفاءة، وحين عجز بهلوي ومبارك عن ضبط الإيقاع، وفقدا القدرة على الوفاء بمهام متفق عليها، لم يتمتعا بوقت إضافي في لعبة صارمة، فأعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعد قراءة اتجاه ريح ثورة 25 يناير 2011، ضرورة انتقال السلطة في مصر، “وينبغي أن يكون (التغيير) ملموسا.. وينبغي أن يبدأ الآن”، وتخلى عن مبارك، كما تخلى سلفه جيمي كارتر عن شاه إيران، ورفض منحه لجوءا سياسيا. وأسهمت فرنسا في المصير الشاهنشاهي بإعادة الخميني إلى طهران، في فبراير 1979، في إحدى طائرات أسطول الخطوط الفرنسية، واستند العجوز في هبوطه إلى ذراع طيار فرنسي، ووراءه ملالي بعمائم. فكيف نصدق إعلان هذه العاصمة، أو تلك، عن غيرتها على الديمقراطية؟

باختيار حكومات ديمقراطية تنتهي التبعية، وفي الاختبار العملي تسقط أقنعة تخفي الوجه الاستعماري، ففي سبتمبر 1881 قاد الزعيم أحمد عرابي ورفاقه ثورة دستورية، وشرع مجلس النواب في وضع دستور كان يسمى “اللائحة الأساسية” أو “القانون الأساسي”. وسجل الإمام محمد عبده في مذكراته أن الدستور “يحتوي على القواعد الرئيسية للنظم البرلمانية كتقرير مبدأ المسؤولية الوزارية أمام مجلس النواب، وتخويل المجلس حق إقرار القوانين بحيث لا تصدر إلا بموافقته، ومناقشة الميزانية وتقريرها، والرقابة على أعمال الحكومة وعدم فرض أية ضريبة إلا بعد عرضها على المجلس وموافقته عليها، إلى غير ذلك من النظم النيابية الصحيحة التي تقرر سلطة الأمة. ولما علمت فرنسا وإنكلترا بهذا الدستور تذرعت بأزمة سياسية حتى لا يصدر، ولكي يتاح لها التدخل المسلح في شؤون مصر”. وفي الأشهر التالية نجحت خطة شيطنة عرابي.

وفي ذكرى مرور 135 عاما على الثورة العرابية، نشرت مجلة “الهلال”، في سبتمبر 2016، دراسة تقصّت فيها الكاتبة المصرية شذى يحيى نهج الصحافة البريطانية في تهيئة الرأي العام الغربي لغزو مصر في يوليو 1882، وبدأت بالإلحاح على مصطلح “المسألة المصرية”. ولكلمة “المسألة” حمولة نفسية وتاريخية أكبر من كونها مفردة لغوية، فالقارئ يُستنفر ويستدعي تاريخا من الصراع، حتى اقترن مصطلح “المسألة” بقضايا لا أفق قريبا لحلها مثل المسألة الفلسطينية، أو بأزمات انتهت بتفكيك مناطق واقتسامها بين حلفاء فرقاء مثل المسألة التركية في نهايات الدولة العثمانية، أما المسألة اليهودية فشغلت أجيالا من الأوروبيين، منذ ما قبل ماركس إلى ما بعد هتلر. ومهدت الصحف البريطانية للغزو، فوضعت صحيفة إلسيتريتد لندن نيوز في 10 يونيو 1882، صورة عرابي في صفحتها الأولى وكتبت تحتها “عرابي باشا دكتاتور العالم في مصر”، ولم يكن الرجل حاكما ولا رئيسا للوزراء لكي يصبح دكتاتورا، ولكن شعبيته الكبيرة ورغبته في إقرار الدستور دفعت القوة العظمى إلى منحه لقبا سيكون من نصيب جمال عبدالناصر تمهيدا لتدمير مشروعه.

في مصر الآن تجربة يفترض أنها، شكلا، ذات طابع ديمقراطي، وباسم الديمقراطية ترتكب كوارث، وقد أوصلتنا الإجراءات “الديمقراطية” إلى مأزق لا خروج منه إلا بإجراءات ديمقراطية حقيقية تأتي ببرلمان حقيقي. وليس خافيا أن البرلمان الحالي منتخب بحكم الشكل الإجرائي، ولكنه فعليا لا يمثل الشعب. وفي 27 يونيو 2018 كتبت في صحيفة “العرب” مقالا عنوانه “ما بعد السيسي.. أربع سنوات تكفي لتغيير آمن”، استبعدت فيه الأمل في أي إصلاح سياسي في السنوات الأربع الباقية لعبدالفتاح السيسي في الحكم. ويبقى الرهان على الوعي بهذا المبدأ الديمقراطي “مواطن واحد، صوت واحد”. والجيل الذي نشأ واعيا بصعود أحلام ثورة 25 يناير 2011 يضم الملايين من شباب لا تجري في عروقهم دماء الخنوع، وتكفي أصواتهم لإنجاح مرشح ممثل للشعب، لا يمنّ عليه ولا يهدّده ولا يقصيه وينفرد بالقرار في قضايا مصيرية تفكيرا وتنفيذا.

في مصر الآن معركة نوعية تدخل في اختصاص الدراسات النفسية قبل الإعلامية، وهي غير مسبوقة وغير متكافئة، طرفها الأول عجائز من الشتّامين في صحف حكومية، يسبون غير المؤيدين لسياسات السيسي. وطرفها الثاني حالمون بالحرية لا يستطيعون نشر آرائهم العاقلة في الصحف الحكومية والخاصة. الصنف الأول يمتدح 30 يونيو 2013 ويراها ثورة، ويصف 25 يناير 2011 بالمؤامرة، مخالفا نص دستور 2014 “ثورة 25 يناير/ 30 يونيه، فريدة بين الثورات في تاريخ الإنسانية”. أكثر عقلاء هذا الفريق اعتدالا مكرم محمد أحمد (84 عاما) بدأ مقاله في الأهرام 11 سبتمبر 2018 مؤكدا أن “الرئيس عبدالفتاح السيسي هو مؤسس الدولة المصرية الحديثة”. ولا تتعاطف هذه السلالة البشرية مع ضحايا قتلهم شرطي عمدا أو خطأ، أو مع مصور صحافي اسمه محمود أبوزيد (شوكان) سجن منذ أغسطس 2013، وعجزت الشرطة عن جمع أدلة لإدانته، حتى نال في 8 سبتمبر 2018 حكما بالسجن المشدد خمس سنوات قضاها في حبس احتياطي.

في مصر 104 أحزاب رسمية، وشارك في الانتخابات 49 حزبا، وحصل 18 حزبا على مقعد فأكثر، ولم يفز 86 حزبا بأي مقعد، إما لأنها لم تحظ بثقة الناخبين وإما لعزوفها عن الانتخابات توقعا للفشل.

الخيار العاقل الآن هو تأسيس وعي حقيقي في معركة طويلة النفس، وأما الاكتفاء بإفراغ شحنات الغضب في سباب فيسبوكي مضاد فلا يفيد أحدا، ويوحي بانتصار زائف على خصم فوق مستوى السلطات.

9