الانتخابات الأوروبية: معركة مفتوحة بين النخب التقليدية وشعبوية صاعدة

قبل أقل من عام على إجراء الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي، تتزايد المخاوف من تمدّد الأحزاب اليمينية المتطرفة، رغم أنها مُنيت بالهزيمة في الانتخابات بعدة دول أوروبية. ولم تكن دعوة الرئيس الفرنسي مؤخرا إلى خلق عقيدة أمنية تقوم على مقاومة التطرف والنزعات القومية، مجرد استعراض أفكار انتخابية، بل ملامسة لسيناريوهات خطيرة قد تتطور إلى وضع أكثر ترسخا في أوروبا المنهكة بالأزمات.
باريس – وصف المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية والمالية والضريبية والجمركية، بيار موسكوفيتشي، الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي ستجرى في مايو 2019 بأنها “الأهم منذ بدء تنظيم هذا الاقتراع في سنة 1979″، ويؤيده في هذا الموقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وصف الانتخابات المرتقبة بأنها معركة مفتوحة بين الشعبويين المناهضين للهجرة مثل التجمع الوطني والتقدميين الموالين للاتحاد الأوروبي أمثاله.
ودعا الرئيس الفرنسي إلى الإنصات لغضب الشعوب الأوروبية والدخول في نقاش ديمقراطي حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، إلى حين إجراء الانتخابات الأوروبية عام 2019. كما دعا الأوروبيين إلى مراجعة شاملة لأمنهم، وضم النزعة القومية اليمنية المتطرفة الصاعدة إلى قائمة الأخطار التي تهدد أوروبا.
ولم يتردد في وصف مواقف اليمين المتطرف وسياساته بأنها تمثل شكلا من الحرب الأهلية الأوروبية التي تعود إلى الظهور في ظل الظروف الصعبة التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي، ملقيا باللائمة على “الأنانية القومية” لليمين المتطرف.
يؤكد الخبراء أن تصريحات الرئيس الفرنسي تعكس حقيقة الواقع الأوروبي اليوم مستشهدين بتصريحات مارين لوبان زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا، ولها تأثير على أصوات اليمين المتطرف في عموم أوروبا. وقد دعت لوبان في أحدث تحركاتها الأحزاب الشعبوية في عموم أوروبا إلى الوحدة لمواجهة المؤسسة الليبرالية في الانتخابات الأوروبية المقررة العام المقبل.
استهداف أوروبا القديمة
قالت لوبان في كلمة أمام أنصار حزب التجمع الوطني، الذي تتزعمه بمدينة فريجوس، في جنوب فرنسا، إن حزبها سيخوض انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في مايو 2019 بالتنسيق مع حلفاء في حركة أوروبا الأمم والحريات. وبدا أن لوبان عادت بروح قتالية أكثر شراسة بعد هزيمتها في انتخابات الرئاسة الفرنسية العام الماضي. ووجهت لوبان في كلمتها حديثها مباشرة إلى الرئيس الفرنسي، بما يمثله من نموذج لأوروبا التقليدية، قائلة “هدفنا هو هزيمة ماكرون”. وأضافت “في أوروبا، هدفنا هو أن نعمل مع حلفائنا، الجماعات القومية الأخرى، على تكوين أغلبية تنأى عن الاتحاد الأوروبي المتهالك وتتحرك صوب تعاون بين الدول مع الاحترام المتبادل لتنوعها وهويتها”.
رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، أصبحا يقودان رموز اليمين المتطرف لتفكيك هيكل الاتحاد الأوروبي
وترغب لوبان في إجبار بروكسل على إعادة السلطات إلى الدول الأعضاء وهو ما يقول عنه أنصار الاتحاد الأوروبي إنه يؤذن بانتهاء الوحدة السياسية والنقدية لأوروبا. وترتكز الأحزاب الشعبوية في أوروبا لإحكام قبضتها على الاتحاد الأوروبي على السياسات الراهنة لما بات يعرف بـ”أوروبا المنهكة” والتي أدت في العقد الأخير إلى هزات اقتصادية أضيفت إليها أزمات أخرى من قبيل تدفق اللاجئين خاصة بعد عام 2011، وهو ما سمح للأحزاب اليمينية المتطرفة باختراق الأنسجة المجتمعية لعدة دول وخاصة منها الأسكندينافية بالبروز السريع واستغلال فشل الأداء الانتخابي لعديد الأحزاب السياسية في كلٍ من يمين الوسط واليسار بمختلف دول القارة.
وتمتد الأحزاب الشعبوية القائمة خطاباتها السياسية على العنصرية وتبنيها خطابا سياسيا قائما على معاداة مؤسسات النظام السياسي ونخبه المجتمعية في مختلف أنحاء أوروبا.
ووسط تصاعد الحركات القومية في القارة الأوروبية، أصبح الشعبويون يمثلون تهديدا مباشرا لتماسك الاتحاد الأوروبي خاصة مع انتهاج دول مثل بولندا وإيطاليا سياسات تشكك باستمرار في أوروبا وذلك عبر معاداة سياسات تدفق اللاجئين والمهاجرين وهو ما قد يحول دون تمكّن باريس أو بعض العواصم الأخرى المدافعة عن فكرة اتحاد قوي ومتماسك على السعي لإقامة “هلال تقدمي” للتصدي لها.
واتضحت أسلحة الحركات الشعبوية لتفكيك الاتحاد الأوروبي، خاصة عقب عقد قادة أبرز الأحزاب الأوروبية اليمينية في أواخر عام 2017 مؤتمرا في العاصمة التشيكية براغ أكدت فيه الأحزاب الأوروبية اليمينية المتحالفة في “أوروبا الأمم والحريات”، وهي التشكيلة السياسية التي تأسست قبل سنتين داخل البرلمان الأوروبي، أنها تركز على التعاون في أوروبا خارج أطر الاتحاد الأوروبي.
وكان المؤتمر رفع شعار “من أجل أوروبا للأمم صاحبة السيادة” بمشاركة مارين لويان وخيرت فيلدرز زعيم حزب الحرية الهولندي، ولورنزو فونتانا من رابطة الشمال الإيطالية، وغيورغ ماير من حزب حرية النمسا، وماركوس بريتسل من حزب البديل من أجل ألمانيا، إضافة إلى البلجيكي جيرولف أنيمانز، والبولندي ميشال ماروسيك، وكذلك جانيس أتكينسون التي كانت عضوا في حزب استقلال المملكة المتحدة. وأكدت آنذاك مارين لوبان أن هدفها هو تفكيك الاتحاد الأوروبي من الداخل، معتبرة أنه منظمة غير صحيحة وآيلة للسقوط في أي لحظة.
وتراهن الأحزاب القومية الأوروبية رغم تلقيها صفعة قوية خاصة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية على الوازع القومي للأوروبيين رافعة شعارات للفوز بالانتخابات البرلمانية المقبلة للاتحاد الأوروبي من قبيل “الاتحاد مؤسسة كارثية تقود القارة إلى الموت” أو عبر دعوة ما تسميه وجوب تحرير الشعوب الأوروبية من أغلال الاتحاد المهدّد بتدفق المهاجرين المسلمين.
وشددت لوبان على أن “الشعوب الأوروبية عليها تحرير نفسها من أغلال الاتحاد الأوروبي”، متمسكة في كل خطاباتها بأن محل هذه المنظمة سيحتله “اتحاد الشعوب الأوروبية”، وهو مشروع ينص على “التعاون الطوعي بين الدول ويقوم على الاحترام المتبادل ومراعاة مصالحها السياسية والاقتصادية”.
تزامنا مع إحكام قبضة الشعبويين على الحكم في إيطاليا، يحذر العديد من المراقبين من أن تراجع الأحزاب الديمقراطية في أوروبا قد يتيح لأتباع اليمين المتطرف والفكر الشعبوي والقوميين، إيجاد موطئ قدم لهم في الانتخابات لاكتساح البرلمان الأوروبي عام 2019، خاصة بعد أن حقق الشعوبيون أول انتصار لافت لهم خلال القمة الأوروبية في بروسكل في شهر يونيو 2018 التي انتهت باتفاق بخصوص الهجرة قدم فيه المعسكر الليبرالي التقليدي تنازلات لصالح رؤية رئيس الوزراء الإيطالي اليميني غوزيبي كونتي.
وقال المراقبون حينها إن الوضع، أوروبيا ودوليا، فرض هذه التنازلات، التي أدخلت أوروبا إلى حقبة تحكم اليمين المتطرف في صناعة قرارات ورسم سياسات الاتحاد.
ودعمت جريدة “لوبسرفاتور” (الملاحظ) الفرنسية هذا التوجه بتأكيدها أن كلا من رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، أصبحا يقودان رموز اليمين المتطرف لتفكيك هيكل الاتحاد الأوروبي.
عدم الاستسلام
تنادي العديد من الأصوات الديمقراطية في أوروبا بغلق الطريق أمام الأحزاب القومية وإلى وجوب المزيد من التكتل حول الاتحاد الأوروبي وعدم الاستسلام للعنصرية والتمييز والانعزال التي تشجع عليها الأحزاب الشعبوية، وذلك بالتنسيق بين الأحزاب، والتخلص من الضغط على حكومات اليمين من أجل وقف سياسات التقشف والوصول إلى حل إلى مشكلة البطالة والهجرة غير الشرعية واللاجئين، وانتهاج سياسة منفتحة على الشباب التي توظفها أحزاب اليمين المتطرف في كل المعارك السياسية وخاصة في انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة.
وأكّد جاسم محمد، رئيس المركز الأوروبي العربي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبار، الذي يتخذ من برلين مقرا له، تمدد الأحزاب اليمينية في أوروبا، مشيرا في تصريح لـ”العرب” إلى أن “خطر اليمين سيتصاعد أكثر في ألمانيا وعموم أوروبا”. وأضاف أن “سيطرة الشعبوية على الخطاب السياسي الأوروبي مقلق لما سيترتّب عليه من تأثيرات وانعكاسات على المجتمعات، والأهم أنها تفتح الباب واسعا بشأن الحديث عن شكل الاتحاد الأوروبي في المستقبل”.
ورغم أن الأحزاب اليمينية المتطرفة تعد حديثة على البرلمان الأوروبي وغير وازنة على القيام بتأثير فاعل على أنشطة البرلمان، إلاّ أن كل تحركات زعماء هذه القوى السياسية الشعبوية تشير إلى مراهنتها الكبرى على إحداث المفاجأة في انتخابات البرلمان الأوروبي المرتقبة أولا عبر استقواء نفوذها في عدة بلدان أوروبية وثانيا بالمراهنة على نفس الأوراق التي تحركها منذ عقود والقائمة على تعزيز القومية الأوروبية وإعادة ضبط الحدود والاستقلال عما تعتبره اتحادا مشلولا.
وإزاء تغلغل أحزاب اليمين المتطرف، تنادي العديد من الجهات السياسية الأوروبية بوجوب تجنيد الأعضاء المؤسسين للمشروع الأوروبي لمجابهة زحف الشعبوية بتحديد خطة واضحة
وفي ظل هذا الوضع الجديد، تبدو أمام الاتحاد الأوروبي ثلاثة خيارات لتجاوز عقبة المعارضة القادمة، فإما المواجهة بشكل مباشر وصريح وإما التطلع إلى “استيعابه” أو “التحقق” من تأثيره المتنامي ومن ثمة ضربه عبر تفتيت شعاراتها والأوراق التي تلعب على ترويجها في أذهان الأوروبيين، وفي كل الحالات ستكون انتخابات 2019 الأهم لأنها ستحدد مستقبل الدولة الأوروبية العميقة.