رفض الوصاية يتحول إلى خصام بين الشباب والمؤسسات الثقافية

تتسع الفجوة الثقافية كل يوم بين الشباب العربي ومؤسساته الرسمية. وتعيش بعض الجهات أزمة في إمكانية جذبهم إليها، في ظل إقبالهم على الفعاليات غير الحكومية، وهو ما يشي بتمرد ضمني، ويحمل رسالة تحذير بشأن ضرورة الانتباه لهذه الشريحة والإصلاح السريع، قبل أن يستفحل الانسحاب، وتتلاشى الثقافة الرسمية بكل ما تحمله من أهداف سياسية متنوعة.
القاهرة - أضحى تمرد جيل الشباب على كل ما هو رسمي سمة تصاحب المؤسسات الحكومية المعنية بجذبهم واستيعابهم بشتى الطرق. وشكلت الجهات الثقافية الرسمية في مصر إحداها، بعد أن فشلت في خلق جيل جديد يُقبل بكثافة على التجاوب مع أنشطتها.
وتمرُد الشباب على المناسبات الثقافية الحكومية، بات ظاهرة ملحوظة. فقد فرغت الندوات من الحضور الشبابي في وقت تمتلئ فيه أخرى خاصة بهم.
وامتنع الشباب عن شراء الكتب الصادرة عن الجهات والمؤسسات التابعة لوزارة الثقافة في مصر. واتسع التمرد ليشمل الهجوم على الأجيال السابقة التي احتكرت اجتماعات ومؤتمرات وفعاليات الدولة وشكلت النخبة وحدها.
وهناك من فسر الخصام بين الحكومة والشباب، بأنه يتعلق برفض التلقين، بينما هناك من أرجعه إلى عجز أوعية المؤسسات الرسمية عن احتواء الشباب.
وذكرت مسؤولة في وزارة الثقافة المصرية (رفضت ذكر اسمها) لـ”العرب”، واقعة ذات دلالة بالغة، فقد جرى الإعداد لندوات لجذب الشباب في أثناء معرض القاهرة الدولي للكتاب الأخير.
ووضعت الوزارة أجندة تفصيلية، تنوعت عناوينها بين الإبداع الشعبي، والسرد الحديث، والتطرف والتعصب، وأعلن عنها قبل شهر عبر صفحات الشباب والثقافة على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، وفوجئوا باستجابة ضعيفة جدا، انتهت إلى أن الحضور في كل ندوة لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
ووصل الأمر بالمسؤولة في النهاية إلى دعوة أصدقائها ومعارفها لتعويض غياب المثقفين الشباب وغيرهم، فكان الحوار بين ضيوف المنصة والقاعة شبه صامت.
إحجام وإقبال
يحتشد الشباب بأعداد غفيرة في ندوات غير رسمية، تقام على بعض مقاهي القاهرة الشعبية، وفي أروقة مكتبات خاصة. ويشاركون بإيجابية في ندوات ثقافية تنظمها بعض الأحزاب السياسية، مثل حزب التجمع الاشتراكي.
وفي إحدى المكتبات الخاصة بوسط القاهرة، وفي حفلة توقيع للشاب عمرو الجندي الكاتب المتخصص في أدب الرعب، وقف شباب وفتيات في طابور طويل للدخول إلى قاعة الحفل للحصول على توقيع الكاتب.
وما يجري في الندوات الرسمية يحدث بشكل أوضح مع إصدارات المؤسسات العامة من كتب وروايات ودواوين شعرية.
وقد شكت سهير المصادفة رئيس إدارة النشر بالهيئة العامة للكتاب في مصر من إحجام الشباب على شراء كتب الهيئة رغم أنها بثمن زهيد، وينصرفوا إلى إصدارات دور النشر الخاصة.
وأصبح تراكم المخزون مشكلة كبيرة في المكتبات العامة، نتيجة ضعف الإقبال لوجود قناعة لدى المشترين، بعدم ملاءمة إصدارات الجهات الحكومية مع أذواقهم في القراءة، بينما تجد كتبا صادرة عن دور نشر خاصة رواجا وتحقق طبعات عديدة.
ويرى مثقفون شباب أن المؤسسات الرسمية تقليدية، ولا تواكب التطورات الفكرية للأجيال. ويتقمص القائمون عليها دور الواعظ والمرشد والموجه، وهو مرفوض من جيل تتملكه رغبة متواصلة لكسر المألوف وتجاوز التابوهات.
ويعتقد هؤلاء أن التكرار الممل لثيمات ثابتة من الفعاليات الثقافية التي لا تتبنى قضايا مرتبطة بواقعهم المعيشي، يجعل القطيعة حتمية مع المؤسسات الرسمية، بدءا من وزارة الثقافة وفروعها المتغلغلة في المدن والقرى، وحتى إصدارات الكتب الفكرية والأدبية العامة. وتبدو مقاطعة الثقافة الرسمية ومؤسساتها رد فعل طبيعيا تجاه رؤية الشباب، بأن المسؤولين يتبنون سياسة التلقين والتوجيه في المجال الثقافي. يقول محمود حسن، شاب ثلاثيني، يحضر الكثير من حفلات توقيع الكتب لـ”العرب”: “نحن في واد ومؤسسات الثقافة في واد آخر، كيف نعترف بالمؤسسات الحكومية وهي لا تعترف بنا؟ كل ما يطرح عن الحوار مع الشباب لا يتجاوز التصريحات الإعلامية ولأغراض سياسية”.
صراع أجيال
ويعيش قطاع كبير من الكتاب الشباب في صراع مع الأجيال السابقة التي ترى أنهم يقدمون مادة أدبية رديئة.
ويتهم الشباب تلك الأجيال باحتكار نشر الكتب والندوات الثقافية الرسمية، ما يزيد الفجوة ويبعدهم عن أي مناسبة ثقافية حكومية.
وكشف رحيل الكاتب أحمد خالد توفيق مؤخرا، مدى حب الشباب له وتعلقهم بكتاباته، بينما لم تر وزارة الثقافة أنه يستحق التكريم على مجمل إبداعاته التي تحولت إلى محل تقدير قطاع كبير من محبي القراءة.
ويتعزز تجاهل المؤسسات بشيوع اعتقاد لدى فئات عديدة، بينها الشباب، أنه يتم استغلال الثقافة لتجميل وجه النظام السياسي وحشد المزيد من المؤيدين لتصوراته.
وأوضح الروائي أحمد القرملاوي، الفائز بجائزة الشيخ زايد للمؤلف الشاب عام 2018 عن روايته “أيام صيفية”، أن لكل جيل أذواقه الخاصة، ورموزه وكُتابه وأفكاره، مؤكدا لـ”العرب” أن الشباب يتتبع الغريب ولديه اهتمام بالمختلف، والمستحدث من أفكار وطروحات.
ورأى أن تحميل المؤسسات الرسمية وحدها نتاج ذلك “أمر غير عادل في ظل وجود الكثير من المبادرات الحكومية الجيدة لاكتشاف ودعم إبداعات الشباب”.
وسعت مؤسسات رسمية لجذب الشباب وتخصيص إصدارات بعينها لهم، وتنظيم مسابقات إبداعية للأعمال الأولى لمن هم دون الثلاثين عاما، ووضع عناوين لافتة عن التطور ومواكبة العصر لكثير من الندوات الثقافية، مع ذلك لا يزال حجم التجاوب محدودا للغاية.
وقال الباحث جمال أبوالحسن، إن رفض المؤسسات الرسمية والتمرد عليها سمة عالمية لدى معظم شباب العالم، وهناك ظاهرة ناشئة تتمثل في مخاصمة كل ما هو رسمي.
وأشار لـ”العرب”، إلى أن رواج مواقع التواصل الاجتماعي دفع الكثير من الشباب إلى أن يجد نوافذ جديدة مغايرة للمؤسسات الرسمية، في الثقافة والسياسة وغيرهما.
وتبدو فكرة التمرد لصيقة بالشباب، وتنامت خلال السنوات الماضية، ما دفع كثيرين إلى البحث عن كل ما هو غير تقليدي، ما يصعّب من عملية التكيف مع المؤسسات الرسمية.
ورفض عماد الغزالي رئيس تحرير جريدة “القاهرة” التي تصدر عن وزارة الثقافة، فكرة مخاصمة الشباب للفعاليات الرسمية، وقال لـ”العرب”: “هذا طرح غير صحيح في مجمله ويحتاج إلى ضبط وتدقيق”، لافتا إلى أن معظم جمهور حفلات الأوبرا من فئة الشباب، والكثير من المشاركين في فعاليات المسرح التجريبي شباب، كما أن معرض القاهرة الدولي للكتاب، أحد أنشطة المؤسسات الرسمية، يحظى باهتمام جمهور أجيال مختلفة، في مقدمتها الشباب.
وأضاف “الطرح يصح في ما يخص إصدارات الكتب، وبعض الندوات الفكرية، والسبب عدم اهتمام الجهات الرسمية بالتسويق، وهو صعب لأنه يتطلب مخصصات مالية كبيرة، ومراجعات محاسبية، فضلا عن الحاجة لمتخصصين وفنيين يجيدون التسويق الإلكتروني الذي أًصبح طريق نجومية عدد من الكتّاب”.
وتلجأ دور النشر الخاصة لعمل حفلات توقيع لكتابها وتنشر إعلانات مدفوعة على إنستغرام وفيسبوك لدعوة أكبر عدد ممكن من الضيوف، ما أدى إلى صناعة نجوم كثيرين من الشباب.
واعترف رئيس تحرير جريدة القاهرة أن دور النشر الخاصة أنجح في صناعة النجوم، مشددا على أنهم يحترفون ذلك، كما أن الاستسهال الملائم لعصر التكنولوجيا، يجعل الشباب أقرب لكتاب معينين يجيدون لفت الأنظار ويحسنون التسويق، بغض النظر عن قيمتهم الأدبية.
ولا يختلف الأمر كثيرا في الجزائر، إذ وصل الشباب المتابعون للميدان الثقافي إلى يأس من برامج وزارة الثقافة التي تتمتع بميزانية ضخمة مقارنةً مع ضعف التأثير وتعطُّل الحركة الثقافية، حين برزت مجموعة من المبادرات الشبابية بثت الحياة.
إعلان تقليدي
عند طرح سؤال عن الملتقيات والندوات التي تنظمها وترعاها وزارة الثقافة والأجهزة التابعة، على أي طالب جامعي أو كاتب مبتدئ أو مواطن مهتمٍّ بالثقافة -في صورها العامة- من الملاحظ أن هناك انفصالا كاملا بين هؤلاء المثقَّفين وبين تلك النشاطات.
ويقول المتابعون للشأن الثقافي الجزائري إن وزارة الثقافة مازالت تعتمد الطرق التقليدية في الإعلان عن برامجها ومشاريعها، وذلك بنشر الملصقات الإعلانية (ملصقات ورقية) في أماكن محدودة، وهذا يكشف مدى الفجوة بين المسؤولين وبين تكنولوجيا الإعلام الحديثة وتقنيات التواصل مع الجمهور، فمثلا نجد الصفحة الرسمية للوزارة على فيسبوك لا تحظى إلا بعدد قليل من التفاعلات على منشوراتها، كما أن نشر الإعلانات على الموقع الإلكتروني لا يؤدي أي دور في الوصول الإعلامي.
لكن في مقابل الغياب الرسمي عن الفعل الثقافي؛ هناك ثورة ثقافية تتفاعل مع نبض الشارع وتلامس الإرادة الشبابية وتستجيب لمتطلَّبات هذه الفئات، وتتمثل في عدة مبادرات أنجزها شباب من مختلف المناطق، دون أي دعم رسمي من قِبَل الوزارة، لا في بداياتها ولا حتى عند استمراريَّتها.
وفي تونس يرى الكثير من الشباب أن الرؤية الثقافية الرسمية غير كفيلة بإصلاح القطاع. ويعتبر البعض أن النشاطات الثقافية بعيدا عن العاصمة ضعيفة، ويعود ذلك إلى سياسة قديمة، تقوم على حصر النشاط الثقافي والاقتصادي في مناطق معينة، دون غيرها، لذلك لا تمثل الشباب ولا تستقطبهم.
وأعربوا أن الوضع الراهن بحاجة إلى ثورة ثقافية حقيقية قادرة على تحقيق التمييز الإيجابي والارتقاء وإيلاء الاهتمام لقضايا الشباب وتمثيلهم، لا سيما أن الجيل الحالي لا يعتبر أن هناك التقاء بينه وبين ما يتم تقديمه في المؤسسات الثقافية الرسمية، التي تعتمد في غالبيتها على رؤى الجيل الأكبر سنا، فيتجه الشباب إلى ملتقيات ومنتديات حرة تعبر عنه.
كما أن المهرجانات الثقافية اليوم أضحت دون إشعاع أو قيمة تذكر بسبب السياسات العشوائية.
ويرى البعض أن انتشار المهرجات الغنائية الصيفية في مختلف أنحاء البلاد، لا يعتبر حدثا ثقافيا، يلبي اهتمامات الشباب وطموحهم لحياة ثقافية غنية، بقدر ما هي أنشطة ترفيهية لا تتعلق بشريحة معينة.
وأضافوا أن المبادرات والفعاليات المستقلة التي يقومون بها أكثر تمثبلا لقضاياهم.