الضباب يلطف صيف صلنفة في سوريا

اللاذقية (سوريا) - ليس غريبا أن يسكن الضباب مدينة في فصل الشتاء، حيث البرد والمطر والثلج، لكن الغرابة كلها أن يكون ذلك في فصل الصيف، حيث الشمس الساطعة والحرارة اللاهبة.
منطقة صلنفة تفعل ذلك وتجمع الضدين فيها، فيغدو الضباب شريكا للصيف في يومياته، ليشكلا معا صورة نادرة في حياة الطبيعة.
صلنفة، مدينة سورية تعيش في شلال أخضر من الغابات في جبال اللاذقية، على ارتفاع ما يقارب الألف ومئتي متر فوق سطح البحر، تطل على سهل الغاب الأخضر من جهة، ومن جهة ثانية على قمة جبل النبي متى، ومن جهة ثالثة ورابعة على سلسلة جبال اللاذقية الخضراء.
ولا يتجاوز عدد سكانها الألفي شخص يعمل بعضهم في الزراعة، أما غالبية السكان فيعتمدون على السياحة، خاصة الصيفية، حيث يجتمع السوريون والعرب والأجانب، وقد بلغ عددهم في السنوات الأخيرة قبل الحرب حوالي نصف مليون زائر سنويا، أي ما يعادل مئتين وخمسين ضعفا من عدد سكانها.
علوها الشاهق عن سطح البحر جعل جوها معتدلا وأقرب إلى البرودة حتى في أشد درجات الحرارة صيفا، فهي في فصل الصيف الحار أكثر ميلا للبرودة من مناطق الساحل، الذي تسكن فيه الرطوبة العالية بسبب البحر.
وهذا ما جعل الناس ومنذ فترات طويلة يرغبون في زيارتها، طلبا لجوها الرطب الذي يريدون الاستمتاع به هاربين من الجو الصيفي اللاهب الذي يحيط بمدنهم. وفي صيفها الحالي، تحيل المدينة زائرها للمزيد من الدهشة والجمال، فمع ساعات الصباح الأولى يسكن الضباب الصيفي في أحيائها، في حوارية لا تتكرر كثيرا حيث يغدو هذا الضباب النادر جزءا من طين بيوتها وحجارة طرقها ليكون مزيجا خاصا ساحرا في مزاج الناس، وجزءا من ذكرياتهم التي سرعان ما تستعيد حالات مشابهة كانت في سابق الأيام. وفي تجوال سريع في المدينة ومحيطها، يجد الزائر غاباتها التي توجد فيها الآلاف من شجر الشوح والأرز والحور والزنزلخت والسنديان وغيرها من الأشجار التي قامت الجهات البلدية فيها بحملة لتوثيقها، فأوجدت لحوالي عشرين ألف شجرة بطاقة ذاتية، تتضمن بيانات عنها، منها العمر التقريبي ومكان الوجود وتاريخ الترقيم والنوع.
هذه البطاقات ستعمل كما يقول أصحاب الفكرة على توثيق الأشجار وحمايتها من القطع الذي يقوم به بعض المنتفعين من تجارة الأخشاب، خاصة الأنواع النادرة منها. وهم من خلال هذا الأسلوب وبالتعاون مع الضابطة الحراجية يمنعون حدوث المزيد من حالات القطع غير المنظم والقانوني.
وتغدو صلنفة في الشتاء قلعة ثلجية في المنطقة العالية، وهي المدينة التي يسكن الثلج في طرقها وعلى أسطح منازلها أسابيع متواصلة، لتغدو مجددا قبلة لزوار يحبون الأجواء الثلجية، فيأتون إليها ليتمتعوا بثوبها الأبيض الذي يعطي الزائر روحانية خاصة، رغم مخاطر البرد والعزلة التي تحيط بالمكان.
في صلنفة السورية التي تبتعد عن مدينة اللاذقية شرقا حوالي الأربعين كيلومترا، لا يزال التنور حاضرا بقوة، فالعديد من نساء المدينة كبيرات السن يقمن بتجهيز أنواع عديدة من الطعام المعتمد على العجين، ويقمن بشوائه على تنور الحطب القديم، مستذكرات بذلك طقسا اجتماعيا وعائليا قديما في المنطقة يمتد للمئات من السنين.
ومع وجود الإطلالة الجميلة على الجبال والوديان المليئة بالغابات سيكون أمر تناول وجبة غذائية من الفطائر الساخنة بالجبن أو الزعتر أو المحمرة بالبصل أمرا استثنائيا للكثير من السياح الذين يجدون في بساطة هذه الوجبة الكثير من الجمال والألفة.
وفي شوارعها العديد من الفنادق والشقق التي يتم تأجيرها منذ العشرات من السنين، بمبالغ معقولة حينا وباهظة أحيانا أخرى، ومن اللافت أن بعض الأغنياء العرب قد تملكوا شققا في المدينة يسكنونها أسابيع قليلة في العام خلال الصيف أو الشتاء. كما تزدهر في المكان العديد من المطاعم التي بني أولها عام 1950 وهو لا يزال يعمل حتى الآن ليقدم للسياح الزائرين أصنافا من الأطعمة السورية والأجنبية.
صلنفة عاشت فترة عصيبة من المتاعب الأمنية بعد الظروف المحيطة بسوريا كلها، فتراجعت معدلات العمل السياحي فيها حتى بلغت درجة الصفر، في ظل حالة الفوضى التي كانت تحيط بالمنطقة، لكن الأمر تبدل أخيرا، فمع وجود حالة أمنية أفضل والعديد من المرافق التي عادت للعمل في المنطقة، بدأت الأمور تعود لطبيعتها بشكل تدريجي، وبدأت آمال الناس تدغدغ أحلاما قديمة لهم، كانت قد برمجت سابقا وتوقف تنفيذها لأسباب شتى، مثل مشروع التلفريك السياحي الذي كانت تود الدولة تنفيذه في المنطقة، وكذلك العديد من الفنادق ومحطات الوقود والمراكز الثقافية وغير ذلك مما تحتاجه البنية التحية لبناء منظومة سياحية حقيقية في المنطقة.
وفي محاولة أهلية لإعادة العمل السياحي للمدينة الذي دمرته الحرب، قام بعض النشطاء خاصة من الشباب، بتنظيم جهودهم مستغلين شبكات التواصل الاجتماعي لتصميم وتنفيذ مشروع سياحي طموح، بالتعاون مع بعض أصحاب الفعاليات الفندقية أو الشقق والمطاعم.
وكان الهدف من برنامجهم كما بينوا في ملصقاتهم، إعادة الحياة السياحية للمدينة بأي حال ولو بأثمان قليلة، حيث بلغ ثمن استضافة الشخص ليوم واحد دون منامة ما يقارب الثمانية دولارات، وهو ثمن مشجع سياحيا ويشكل محفزا هائلا لإعادة الثقة بالمنطقة وبكونها مدينة سياحية.
آمال هؤلاء النشطاء تصطدم بواقع خدمي صعب، في ظل بطء واضح في تأهيل البنية التحتية للمدينة (ماء وكهرباء)، حيث تعاني المدينة حتى اللحظة من فترات تقنين فيهما، على أن المتفائلين يرون أن ضباب الصيف وجمال المكان سيعودان بالناس إليها مهما كانت الظروف.