إهداءات الكتب.. من المألوف إلى العجيب المتمرد

القاهرة- كلما جلبت كتابا جديدا أتوقف كثيرا أمام الإهداء، موقنا أن الكتاب أغلى ممتلكات المؤلف، لذا فإن إهداءه يكشف أولويات علاقاته وصداقاته ومعارفه ومحبته لأشخاص بعينهم في الواقع أو شخصيات لها علاقة بالكاتب، وهو وحده الذي يعرف مغزاها.
وتعكس فلسفة إهداءات الكتب في السنوات الأخيرة تطورا في رؤى جيل جديد من المبدعين الشباب، جيل يسعى نحو الاختلاف عن السابقين، والتمرّد في بعض الأحيان على قوالب وقواعد المؤلفين القدامى.
لم يعد الإهداء ديباجة شكر ووفاء لأناس لهم فضل على المؤلف، إنما تعدى الأمر ذلك ليحمل رسائل مختلفة حول ضرورة تحرير العقل، والتمرد على القبح، ورفض أشكال الوصاية، واستدعاء نماذج غربية للإبداع والفكر.
وجنح الكثير من مؤلفي الكتب مؤخرا، إلى تحويل نص الإهداء إلى قطعة أدبية لافتة، غير مألوفة، تدفع القارئ إلى التوقف والتفكير وإعادة القراءة، بينما استغله آخرون في تدشين حملات ضد الماضي والرقابة والوصاية على الفكر.
إهداءات الرواد
تؤكد القراءة التاريخية أن لكل جيل أنماطه في الإهداء رغم وجود استثناءات، جيل الرواد له أنماط معروفة في إهداء الكتب تكرّر فكرة الاعتراف بالفضل لأشخاص بأعينهم، مثل إهداء الكتاب “إلى أستاذي” و”إلى والدي” أو “إلى زوجتي”.
بينما حاول قلائل لفت الأنظار بأساليب إهداء مميزة تُقدم رسائل إلى أشخاص بأعينهم مثل قيام طه حسين بإهداء كتابه “حديث الأربعاء” الصادر سنة 1935 إلى “الذين لا يعملون، ويؤذي مشاعرهم أن يعمل الآخرون”، وهي عبارة كانت تلخّص الحالة الشخصية والاجتماعية لدى طه حسين.
وسعى البعض الآخر إلى تأكيد فكرة بعينها مثل “ذاتية الإنسان”، وهو ما عبر عنه الكاتب يوسف السباعي في إهداء رواية “أرض النفاق” حين كتب “إلى خير من استحق الإهداء، إلى أحب الناس إلى نفسي، وأقربهم إلى قلبي، إلى يوسف السباعي، ولو قلت غير هذا لكنت شيخ المنافقين”.
وتكرّرت بين أجيال السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، الإهداءات المباشرة للأقارب والأصدقاء مثل ما كتبه الروائي الراحل صالح مرسي من إهداء في روايته “السيد البلطي” قائلا “إلى ابنتي أمل، فعمرها من عمر الرواية”، أو إهداء الأديب علاء الأسواني مجموعته القصصية المبكرة “نيران صديقة” إلى والده عباس الأسواني باعتباره الرجل الذي علمه. وهناك آخرون اختاروا شخصيات عظيمة خارج الثقافة العربية، مثل جيفارا أو شكسبير أو فولتير لإهدائهم ما يكتبون، للاعتراف بفضل هؤلاء عليهم في الثقافة والتفكير.
مؤلفون ومجددون
يبحث كل كاتب عن التجديد، وتقديم ما هو مميز يخطف الأنظار، ويعرض منظور الكاتب بصورة ملفتة، ومثلت الروائية غادة السمان حالة استثنائية ونموذجا فريدا في الإهداءات بين جيل الروائيين العظام لعنايتها بأن تتضمن إهداءات كتبها رسائل بعينها، فأهدت أحد كتُبها قائلة “إهداء إلى الذين لم يولدوا بعد”.
أما رواية “القمر المربع” الصادرة سنة 1994 فقد أهدتها إلى “حبيب لم يغادرني يوما اسمه الدهشة”، كما أهدت رواية “كوابيس بيروت” إلى “عمال المطبعة، الذين يضعون في هذه اللحظة حروفها رغم زوبعة الصواريخ والقنابل، وهم يعرفون أن الكتاب لن يحمل أسماءهم”.
وهناك روائيون آخرون لهم صور مميزة من الإهداءات، حيث كتبت الروائية ميرال الطحاوي في إهداء روايتها “الخباء” الصادرة سنة 1996 “إلى جسدي.. وتد خيمة مصلوبة في العراء”، مؤكدة رسالة الانتصار للمرأة جسدا وروحا، بعد أن اعتبرت أقلام المد الديني جسد المرأة أصلا لكل بلاء وبيتا للفتنة.
وحاولت الروائية أحلام مستغانمي الاختلاف في بعض إهداءاتها فكتبت في إهداء كتاب “نسيان دوت كوم”، “أهدي كتابي هذا إلى قراصنة كتبي، أنا مدينة لكم بانتشاري”، أما الروائي عبده خال فكان صادما في إهداء روايته “نباح” الصادرة سنة 2004 إلى “كل أوغاد العالم.. لعنة كبيرة”.
ولا تتوقف عوامل تغير وتطور الإهداء عند تغير الجيل، فمع اندلاع نزعات إنسانية أو ظهور أحداث ضخمة ومؤثرة، تتشكل أبعاد تنعكس على طبيعة الإهداءات التي تتلون بين حماس واضح لكسر التقليد وتقديم رسائل تحمل حالة من الرفض والتمرد على الواقع.
وعقب ثورة 25 يناير عام 2011، أصدر الأديب عمرو النيال مجموعة قصصية بعنوان “الحملة المصرية”، والتي تتخيل احتلال مصر لأوروبا، وإرهاصات ذلك، وكتب في إهدائه “إلى وطني الذي استعدته مؤخرا”.
وبحسب الروائي ناصر عراق، فإن الإهداءات الغريبة وسيلة للفت الانتباه ورسالة لتحطيم العادي والمألوف وتحرّر من القوالب الشائعة. وقال عراق لـ”العرب”، “إن فكرة تضمين رسائل في الإهداء تُعبر عن قناعات شخصية أو توجهات بعينها أمر شائع، ولكل جيل قناعاته وتوجهاته التي قد تستغربها أجيال أخرى”.
وأوضح أن الأديب نجيب محفوظ، لم يهد كتابا واحدا من كتبه لأحد، ربما تعبيرا عن شعوره بضرورة تخليص الفن من أي مجاملات أو أغراض أخرى غير الإبداع. وثمة توجه لدى المؤلفين الشبان في السنوات الأخيرة يميل إلى تقديم عبارات تؤكد رفضهم إهمال العقل واتساع نطاق التشدّد والانتصار للمهمشين.
تحطيم المألوف
ذكر الروائي محمد مهنا في إهداء روايته “حشو أدمغة” الصادرة 2012 “إلى الذين يؤمنون بتحرير العقل وضرورة فك قيوده من الأسر”. وأهدى الروائي أشرف الخمايسي روايته “منافي الرب” والتي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر سنة 2013 إلى “الإنسان”.
وكتب حسن كمال، الذي فاز بجائزة ساويرس في القصة القصيرة سنة 2009، في إهداء روايته “الأسياد”، ما يلي “إلى الذين يغردون خارج السرب، ويسعون بعيدا عن القطيع، ويدفنون في مقابر الغرباء لأنهم كانوا يبصرون”.
ولا تخلو إهداءات الكتب من رسائل شخصية تظهر بجلاء في بعض الأحيان، ففي إهداء رواية “دوستينو” لأحمد القرملاوي، الذي فاز بجائزة الشيخ زايد، فرع المؤلف الشاب هذا العام، جاء الإهداء مقتضبا وفيه “إلى الجميع باستثناء البعض”. وقال محمد صادق في إهداء رواية “هيبتا” الصادرة عام 2013 “إلى كل من سمح للدنيا بقتل كل شيء فيه”، وكأنه يخاطب شخصا ما بعينه.
ويرتبط الإهداء أحيانا بمحتوى الكتاب مباشرة، فإن كان الكتاب داعيا إلى تحرير العقل يقدّم الإهداء إلى الذين يفكرون خارج الأطر التقليدية، ويرتبط الإهداء أحيانا بقدر الجهد المبذول فيه وحجم الخوف من نتائجه، حيث تهدي سوزان حرفي كتابها عن النظام الخاص للإخوان، الصادر عام 2017 إلى “كل ساع وراء الحقيقة مهما كلفه ذلك من ثمن”.
وأشار الروائي أحمد عبدالمجيد لـ”العرب”، إلى أنه لا توجد قواعد واضحة لفن الإهداء، ولكل جيل أساتذته ورموزه وسماته المرتبطة بتطور الزمن، والإهداء مهم جدا لأنه الصفحة الأولى في الكتاب، ويتصوّر البعض أن العناية به والتدقيق فيه مسألة ضرورية، لافتا إلى أن المبدعين في العالم يهدون مؤلفاتهم إلى أشخاص أحبوهم أو كان لهم دور كبير في حياتهم.