تمارين على مراجيح الثورة

اختفت المراجيح الشعبية من أغلب قرى مصر، وكانت تمثل جانبا مهمّا من بهجة الأعياد ومولد النبي والأولياء، واستبدلت بها في مدن الألعاب مراجيح اصطناعية تشدّ إليها الرحال. كما اختفت تقريبا عادة المشي، لينفق الكسالى أموالا في زنقات التوكتوك، ثم يفكون عضلاتهم وتيبّس عظامهم في صالات للألعاب تشد إليها الرحال أيضا. تقف المراجيح الكهربائية بزرّ يفصل الكهرباء، وقوفٌ آلي يفتقد إلى كسر للتوقع يميز المراجيح الشعبية، وكان الفرحون بالعيد ممن ينتظرون دورهم في الصعود إلى الأرجوحة يتولون عملية الإطلاق، ثم يتركون مهام تسريع الوتيرة لمن بدأوا التأرجح ويعانقون الهواء، ويدفعون الأرجوحة برشاقة حركات الأجساد وخفة الأرواح، حتى اقتراب نهاية الجولة، فيرفع صاحبها من الأرض كابحا خشبيا يغطيه ما كان إطارا لسيارة، وتظل الأرجوحة تعلو في الاتجاهين وتهبط، إلى أن يلجمها الكابح، استعدادا لجولة جديدة.
الأرجوحة الشعبية هي ثورة 25 يناير 2011 في زهوة صعودها الكاسح، ثم في مرحلة اللجم الحالية، ولكنّ المتشائمين يستعجلون الحصاد، ويتذرعون بسرعة توالي دوران الأرجوحة الآلية، وفي هذا سوء ظن بثورة من لحم ودم، تستريح من جولة غير موفقة، في تربص تكتيكي مراوغ عقب إنجاز ثقافي نوعي في تحرير ذهنية الجيل الصاعد من كهانات دينية وسياسية وقضائية. وقبل الثورة اكتسب شعار “الحكم عنوان الحقيقة” ما لمقولة “المعلوم من الدين بالضرورة” من قداسة، وكان محظورا إلى درجة قريبة من التحريم مناقشة شؤون الجيش والأزهر والقضاء الذي اكتشف الكثيرون أن أحكامه يجوز التعليق عليها وانتقادها؛ فلا توجد “حقيقة مطلقة”، وإنما حكم تطمئن إليه محكمة تتكون من بشر يجوز الاعتراض على أحكامهم بدرجات تقاض تالية، وبسلطة محكمة النقض التي تعيد قضايا معيّنة إلى دائرة قضائية أخرى قد تقضي بحكم ينسخ حكما وصف يوما بأنه “عنوان الحقيقة”.
قضت الثورة على الكهانة الأدبية أيضا، ومن حق أي أحد أن يكتب “عن” الثورة شعرا وقصصا وتنظيرا، ورأى البعض أن الإخلاص للثورة يتحقق بتجاهل تخصصه الذي خلا من إنجاز لافت، والتفرغ للكلام “عن” الثورة، وتكريس الوقت للإفتاء بجسارة يخشاها العارفون. واستجاب للغواية باحثون واعدون، وآخرون نبّهتهم الثورة إلى محصولهم الزهيد، فوجدوا عزاء في حماسة الخريف الثورية، واستمراء التخوين الديني والثوري والإنساني والأخلاقي. والثورة تحتاج إلى توفير جهد كل متخصّص لينجز إضافات في مجاله، فنتحمس له كما نفرح بما يحققه لاعب موهوب هو محمد صلاح لا يدّعي شيئا إلا عشقه لكرة القدم وتفرغه لها، كما كان أحمد زكي ثائرا كبيرا بتفانيه في مهنة التمثيل، أكثر من ممثلين أكثر منه ثقافة وأقل موهبة، فيعوضون هذا النقص بالكلام “عن” الثورة.
أتأمل قول الفرنسي جورج ديهاميل، عام 1936 في كتابه “دفاع عن الأدب”، إن “شهوة السياسة” لذة الفقير. كان يتكلم عن بلده الذي مسه الكساد في الأزمة الاقتصادية العالمية، ويستبق صراعا مكتوما سينفجر عام 1939، وأوجزه قائلا إن “السياسة والحب في فرنسا هما لذة الفقير، اللذتان المجانيتان. والطلب في القهوة الصغيرة يكلف.. أما السياسة فلا تكلف شيئا. وهي تثمل وتثير انفعالات وتجني مفاجآت.. وهي تتغذى بكل الشهوات، وخاصة بأحطّها، فهي غنيمة طيّبة للنفوس الخاوية”.
أكاد أبرّئ ديهاميل من تهمة تحصين السياسة بالكهانة، وأظنه أراد أن يعصم الأفكار من الابتذال بكثرة الكلام، والإلهاء الخبيث، بعيدا عن “الحمى السياسية” التي اعتبرها اختلالا عميقا ينقصه الرشد، ويورث اليأس في تدبّر نوبة قادمة للثورة، وهذا ما تحتاج إليه 25 يناير، رغم حمى رسمية كلما جاءت ذكرى 30 يونيو.