القنبلة البشرية الموقوتة.. التسرّب المدرسي جزء من قصة فشل العراق

الطفولة العراقية ضحية منظومة تربوية متهالكة وتحولات سياسية واجتماعية على وقع الأزمات التي تشهدها البلاد.
السبت 2018/07/07
منظومة معطوبة

بغداد - لا يرتاد أكثر من ثلاثة ملايين طفل عراقي المدارس بانتظام، وفق تقديرات الأمم المتحدة. بينما هناك مليون و200 ألف طفل هم خارج المدرسة تماماً.

تقف عوامل عديدة وراء ظاهرة التسرب المدرسي منها ما يرتبط بالمنظومة التعليمية المتهالكة والمتقادمة من مؤسسات وسياسات ومناهج، ومنها ما يتصل بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية التي شهدها المجتمع على وقع الصراعات والأزمات السياسية والأمنية، لا سيّما في فترات التهجير والنزوح، فسيطرة تنظيم داعش على محافظات عراقية أدت إلى نزوح سكاني واسع وتدمير مدارس أثناء الحرب.

وما كان لتنظيم داعش أن يجد من يغرر بهم لينضموا إلى صفوفه في المناطق التي سيطر عليها لولا ظاهرة التسرب المدرسي وما ترتب عليها من أمية وبطالة وضياع في أوساط الشباب.

وفي مناطق أخرى من العراق كانت ظاهرة عسكرة المجتمع وتجنيد الأطفال واليافعين في الفصائل المسلحة إحدى النتائج المترتبة على التسرب من المدارس التي غذاها الفقر والتهميش الاقتصادي والانسحاق الاجتماعي.  ووفق معلقين فإن التسرب المدرسي يعكس اهتراء المنظومة الاجتماعية بالكامل .

وتشكّل معالجة التسرب المدرسي مدخلاً حيوياً لإعادة تأهيل المجتمعات المحلية في العراق لا سيّما في الموصل بعد ما أصاب أطفالها من صدمات جراء البيئة الظلامية الخانقة التي خلقها داعش وحرب استعادة المدينة من التنظيم وما تسببت به من رعب ودمار وضحايا وآلام، الأمر الذي ترك انعكاساته العاطفية والذهنية على الأطفال وحدّ من قدراتهم على التكيّف مع البيئة المدرسية وبالتالي زاد من حالات التسرب.

طفل عراقي واحد من بين كل أربعة أطفال يعيش في أسرة فقيرة وفق تقديرات الأمم المتحدة

ولا يمكن فصل ظاهرة التسرب المدرسي عن مأساة الطفولة عموماً في العراق، إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن طفلاً عراقياً واحداً من بين كل أربعة أطفال يعيش في أسرة فقيرة، وأن أكثر من خمسة ملايين طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، إلى جانب الآلاف الذين قتلوا أو أصيبوا في الحرب الأخيرة مع داعش. فالتسرب المدرسي كشكل من أشكال الهدر المدرسي هو انعكاس لهدر بشري كارثي يصيب الطفولة العراقية.

وعلى المدى المستقبلي سيؤدي الهدر المدرسي بدوره إلى زيادة وتكريس الهدر البشري المتمثل في فشل الأفراد في توفير احتياجاتهم الأساسية بسبب تدني مستوياتهم المعرفية والمهنية والاقتصادية الناتج عن تركهم للدراسة؛ ما يقود إلى خلق بؤر الفقر والهامشية والاغتراب الاجتماعي.

كما أن الهدر المدرسي بمعنى عدم تكيّف الطلبة مع البيئة المدرسية سيفضي إلى انخفاض جودة مخرجات النظام التعليمي وبالتالي هبوط مستويات الأداء المهني والاقتصادي للفئات المتعلمة والمتخصصة مستقبلاً؛ ما يؤدي إلى هدر اقتصادي واجتماعي وآثار مدمرة للتنمية، بمعنى أن التسرب المدرسي هو آفة تعليمية واجتماعية مآلها الهدر التنموي والحضاري لموارد المجتمع وفرصه ومستقبله.

منظومة معطوبة
منظومة معطوبة

ويحتل التسرب المدرسي موقعاً محورياً في دورة حياة الفقر، فالفقر ابتداءً يدفع الأطفال إلى ترك مقاعد الدراسة، فيكونون خلال سنوات معدودة فريسة للأمية وانعدام المهارات ما يوقعهم في دوامة البطالة وشحّ الفرص الاقتصادية المتاحة أمامهم وفقدان القدرة على المنافسة، فيعجزون عن تحسين أوضاعهم والخروج من الفقر، وينجبون أطفالاً تكون مصائرهم مثل آبائهم في ضعف الإمكانات ما يؤدي إلى تكريس وتأبيد الفقر والهامشية لهذه الفئات وجعلها تتوارث الفقر والعزلة جيلاً بعد جيل. وتساعدنا هذه العلاقة السببية

بين التسرب المدرسي والفقر في أن نفهم كيف يمكن لسياسات معالجة التسرب أن تكون مدخلاً للتنمية وكسر دوامة الفقر وترميم النسيج الاجتماعي وإعادة النازحين إلى مناطقهم في بلد مثل العراق، بمعنى بناء قوة وازدهار المجتمع عبر استعادة الحياة المدرسية وضمان مقعد دراسي لكل طفل وطفلة.

ويمكن لمشروع التغذية المدرسية مثلاً أن يلعب دوراً مهماً في خلق الجذب المدرسي وتشجيع التلاميذ على الدوام في مدارسهم؛ لأنه يغيّر صورة المدرسة من مكان للقهر والترويض إلى بيئة صديقة للطفل ومتفهمة لاحتياجاته.

وفي هذا السياق، يتطلب تفكيك بيئة الطرد والتسريب المدرسي إدخال تغييرات جوهرية على الفلسفة التعليمية والتربوية المعتمدة، وتوظيف اللعب والموسيقى والغناء والترفيه كعناصر أساسية في المناهج الدراسية، بمعنى الاهتمام بحصص الفن والرياضة والمحتوى الفني والجمالي والتفاعلي في المواد العلمية والأدبية، وتعزيز وتكثيف السمات والقيم الجمالية في العملية التعليمية بمجملها كمحتوى وتقنيات.

فعناصر الإبهار والتشويق والمتعة والمرح والدهشة هي من أهم الخصائص التي تجتذب الأطفال واليافعين، وهي متوفرة اليوم بكثافة في التلفزيون والإنترنت واليوتيوب والألعاب الإلكترونية، ويجب توفيرها في النظم المدرسية إذا أردنا اجتذاب أطفالنا للمدارس، وكسر واقع الضجر والرتابة والوحشة التي يشعر بها التلاميذ في المدارس.

والمطلوب اليوم أن تتوازى مكافحة التسرب مع إصلاح تعليمي بنيوي يشمل المنهج الدراسي المعلن الذي تجسّده المواد الدراسية وطرائق التدريس، والمنهج الخفي المتمثل في القيم والعلاقات والمفاهيم التي تتسرب للأطفال من خلال المناخ المدرسي؛ لتكون المدارس بذلك جاذبة للصغار تستقطبهم وتستهويهم.

وهذا يستدعي جعل سياسات معالجة التسرب المدرسي محور عملية إصلاحية وتطويرية شاملة في المجالات الاجتماعية والخدمية المختلفة ذات الصلة بالمجال التعليمي؛ ذلك أن تفاقم نسب التسرب المدرسي يعكس اختلالاً اجتماعياً وتربوياً مزدوجاً، فالمدارس غير جذابة للتلاميذ والأسر غير مشجعة لهم على المواظبة.

مأساة الطفولة في العراق حلقة أساسية في دورة حياة الفقر
مأساة الطفولة في العراق حلقة أساسية في دورة حياة الفقر

ويفرض جعل البيئة المدرسية صديقة للتلاميذ تخليصها من عناصر الطرد المدرسي كالقسوة والعدوانية تجاههم، وتفعيل دور الإرشاد الاجتماعي والتربوي عبر بناء علاقات إنسانية وطيدة بين المرشدين والتلاميذ، والاهتمام بالإدارة التربوية التي تبني جسور الثقة مع الطلبة، حيث كشفت دراسة أجريت عام 2003 في محافظة نينوى أن عدم وجود مرشد تربوي في المدرسة هو أكثر العوامل تأثيراً في التسرب المدرسي. يضاف إلى ذلك أن مشكلة التسرب ترتبط بظروف مؤسساتية تعليمية وأخرى مجتمعية بيئية؛ ما يستدعي تفعيل عمل مجالس الآباء والمعلمين في المدارس وتعزيز مساهمة أولياء الأمور في معالجة مشاكل الطلبة والمدرسة بما ينمي المشاركة المجتمعية في مواجهة التحديات والأزمات.

وليست العوامل التي تتسبب في ظاهرة التسرب منفصلة أو مستقلة عن بعضها البعض بل هي متداخلة ومتشابكة بشكل معقد، فالسياسي يؤدي إلى الاقتصادي، والاقتصادي يفاقم الاجتماعي، والاجتماعي يغذيه الثقافي.

ويتجسّد العامل الاقتصادي في ظاهرة عمالة الأطفال التي تفاقمت بشكل مريع بعد فقدان العديد من الأسر لمعيليها جراء العنف وتنصل الدولة من مسؤولياتها تجاه الفئات الضعيفة والأقل قدرة على الصمود في وجه التحديات الاقتصادية، فهنالك اليوم العديد من الأطفال الذين فقدوا ذويهم في حرب الموصل ولم يعد أمامهم سوى ترك مقاعد الدراسة والتوجه إلى العمل لإعالة أسرهم أو التسول في الشوارع.

ومن أسباب التسرب المدرسي أيضاً شعور الأطفال بوصمة العار إذا كان أحد أفراد عائلاتهم من المنتمين إلى داعش، وعدم قدرتهم على مواجهة أقرانهم ومعلميهم والمجتمع، وهذا المشهد هو جزء من مشهد أكبر يتعلق بمصير عائلات أفراد التنظيم وطريقة تعامل الدولة والمجتمع معهم مستقبلاً، فتغذية روح الانتقام ضدهم ستكون لها نتائج سيئة للغاية على الجميع، ولن تدفع أطفالهم إلى التسرب من المدارس فقط؛ ولكن إلى التسرب من المجتمع والخروج عليه ومعاداته والعمل ضده.

ومن العوامل الثقافية التي تؤدي إلى التسرب المدرسي هيمنة الاتجاهات الاجتماعية ذات الطبيعة العشائرية والأصولية والشعبوية التي تنظر بسلبية إلى التعليم والمدرسة، وأيضاً هيمنة الثقافة الزراعية التقليدية التي تفضّل ترك الدراسة لمساعدة الأسرة في العمل الزراعي، وعلى الرغم من تراجع الزراعة فقد حلّ محلها اليوم في هذه الثقافة الانقطاع عن الدراسة للتطوع في القوات العسكرية والأمنية.

كما تلعب الزيادة السكانية دوراً في تغذية ظاهرة التسرب المدرسي، فالاكتظاظ في المساكن بسبب غياب برامج تنظيم النسل وسيادة ثقافة التكاثر يجعل الدراسة عملية صعبة على التلاميذ في منازلهم لعدم توفر المساحة والظرف المناسبين بفعل الضوضاء والازدحام وتحمّل الفتيات لمسؤوليات منزلية وأسرية كبيرة بصورة مبكرة، ويتسبب الاكتظاظ السكاني في اكتظاظ مدرسي أيضاً ما يؤدي إلى تقليل كفاءة البيئة التعليمية ومفاقمة التسرب من التعليم.

التسرب المدرسي ليس أقل خطورة على حياة البشر والمجتمعات من التسرب الإشعاعي من المفاعلات النووية

وتشير دراسات إلى أن الزواج المبكر للفتيات هو أحد العوامل الثقافية والاجتماعية المغذية للتسرب المدرسي، وتتفاقم هذه الظاهرة مع صعود ثقافة تقليدية محافظة تعلي من شأن الزواج المبكر على حساب التعليم والنضج والتطور الشخصي للفتيان والفتيات. إن المدرسة مؤسسة حديثة ومن الطبيعي أن يتراجع دورها وتعجز عن استقطاب التلاميذ في ظل صعود ثقافة أصولية وشعبوية تعادي المؤسسات بمختلف أشكالها ومنها المدرسة.

وبالتالي لا ينشأ الأطفال في بيوتهم على تقدير المعرفة واحترام القانون، ما يتسبب في إخفاقهم في التأقلم مع البيئة المدرسية وما تمثله من سلطة تعليمية. وثمة عامل آخر هو تأثير القيم السياسية المهيمنة التي انعكست على ثقافة المجتمع وسلوكياته، فسعي السياسيين للربح السريع والترقي المفاجئ عبر الانتخابات أو الصدفة السياسية تسبب في نشر ثقافة تحطّ من قدر العلم ومكانة التعليم وقيم الصبر والمثابرة والإنجاز في نظر الأجيال الجديدة.

كما أن التسرب المدرسي هو نتاج الفجوة المعرفية الهائلة بين المنهج الدراسي والواقع، فالمنهج غامض وتقليدي وتلقيني وعاجز عن إشباع نهم التلميذ لفهم الحياة وتلبية تطلعاته وتساؤلاته وإغناء وعيه، بينما الواقع يموج بالتحولات والتغيرات والتطورات التي تمس حياة التلميذ بصورة مباشرة، لا سيّما في ظل التطور التكنولوجي وتماس التلميذ مع الانفتاح الإلكتروني، وحين يخفق المنهج في جذب اهتمام وانتباه التلميذ فإن الواقع المحتدم سيجرفه إلى صراعاته ومساوئه، فيترك الدراسة ويكون مصيره عمالة الأطفال والاستغلال الاقتصادي والعسكري والانحرافات السلوكية.

لقد باتت معالجة ظاهرة التسرب المدرسي ضرورة لإعادة الاستقرار وبناء السلام وحماية المجتمعات من العنف، فالمدرسة هي خط دفاع اجتماعي ضد التطرف والانحراف، ومن خلالها لا تتم حماية الأطفال من الأمية فقط وإنما حمايتهم أيضا من الهشاشة والتفسّخ.

20