لون الراديكالية

على غفلة من اللون الأسود واللون الأبيض، في زمن ما بعد الحرب العالمية بسنوات عديدة أكثر، ولد الرمادي كلون للراديكالية الجديدة فنمى وترعرع في كنف إنسانية فقدت براءتها.
الجمعة 2018/07/06
صورة فوتوغرافية من توقيع المفكر الفرنسي جان بودريارد

قيل إن العالم يكتنز الضوء والعتمة والخير والشر، عناصر متناقضة لا تلتقي إلاّ في حال مواجهة كبرى، ثمة فيض من القصص التي كرّست هذه “الراديكالية الحميدة”، إذا جاز التعبير، سردت لحديثي السن على اختلاف جنسياتهم وانتمائاتهم الاجتماعية هذه المعادلة الساذجة في قوالب جذابة وغرائبية يصعب نسيانها، مثلا، نذكر ليلى الوديعة من ناحية، والذئب الخبيث من ناحية أخرى، وبياض الثلج البريئة من ناحية، وزوجة الأب الشريرة والقاسية القلب من ناحية ثانية.

هكذا تأطير وتصنيف الأطراف الفاعلة في القصص بأغلبيتها الساحقة، وتصنيف الألوان التي ارتدتها أو تميزت بها، قصص ساهمت في تشكيل نظرتنا المبدئية إلى الحياة وإلى الألوان في تجلياتها غير المحصورة بعالم التشكيل الفني الكلاسيكي والمعاصر.

غير أن هناك تبدلا هائلا طرأ خلال السنوات العشر الأخيرة ، إذ أصبحت تلك “الراديكالية الحميدة” مهزلة أكبر بكثير ممّا كانت عليه أيام طفولتنا، ليس لسذاجتها، ولا للاواقعيتها، بل لأنها باتت “تتجمّر” على نار ازدواجية المعايير والمبادئ والتشويش واللغط والتناقض الهائل الذي تتصف به الإجابة عن أسئلة مصيرية كبرى من قبيل ما هو الإرهاب ومن هم أربابه؟ ما هي الضحية؟ ومن هو الجلاد؟ وهل من الممكن أن يجتمع في العنصر الواحد القاتل والمقتول؟

جاء التشويش المنبثق من تراخي الحدود ما بين الواقعي والخيالي لا سيما بعد حدوث الثورات التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة ليزيد اللغط القائم أضعافا مُضاعفة، فتنتفي مُحاسبة الآخر أو حتى الرغبة في تصويب الأمور لصعوبة تلقّف كل تفاصيلها ومخابئها، هذا إذا لم نذكر التهديد الدائم الذي يتربص بكل من أراد أو حاول الخروج من دائرة ما يُمكن تسميته هنا بـ”الراديكالية الرمادية المعاصرة”.

تحولت تلك “الراديكالية الحميدة” التي أُتليت على مسامعنا من خلال القصص ونحن صغارا قبل الخلود إلى نعمة النوم، وحيث كان الخير واضح المعالم ومنتصرا دائما على الشر، تحوّلت إلى غوغائية التبست فيها الحقائق وذاب فيها مفهوم الشر في الخير والعكس صحيح، ربما لأجل ذلك نشهد في عالمنا إضافة إلى حالة التلذّذ بالرياء والإجرام، ما يشبه الشلل عند بعض الجماعات الناجية فكريا وقلبيا من الحلقة الرمادية الضاغطة، في الإتيان بأي عمل يفك أسرها.

ربما، بصريا، وعلى غفلة من اللون الأسود واللون الأبيض، في زمن ما بعد الحرب العالمية بسنوات عديدة أكثر، ولد الرمادي كلون للراديكالية الجديدة فنمى وترعرع في كنف إنسانية فقدت براءتها حتى يوم أصبح فيه هذا اللون المساحة الأوسع والأشمل، حيث تعيش وتتقلب في أغبرتها السامة كافة البشرية.

المفارقة أن هذا اللون، أي الرمادي، ومن منطلق فني/ سياسي/ إنساني/ اجتماعي/ بيئي قد يبدو أقل تطرفا من الأسود والأبيض، لون يصلح لأن يكون لون الإنصاف والاعتدال والسماحة والعمل على إيجاد صيغ تصون إنسانية الجميع وحقها بغض النظر عن الجنسية أو اللون أو الدين في الوجود الكريم، لكنه لون لا يحمل الآن وفي هذا العصر إلاّ راديكاليته وبياناته السلبية وقد تشرّب من الأسود والأبيض أسوء ما عندهما من خصائص.

أصبح الرمادي تظهيرا لونيا، إذا جاز التعبير، لعملية تفكيك تدريجي للمبادئ الراعية لحقوق الإنسان والتي معظمها تأسّست بعد الحرب العالمية الثانية. من ضمن هذا السياق أعلنت الولايات المتحدة “رماديتها” الراديكالية عبر انسحابها رسميا من مجلس حقوق الإنسان لأنها، بالنسبة لها، ومن وجهة نظرها وحدها، مؤسسة، “منحازة ضد إسرائيل، وهي في ذلك منافقة وأنانية تستهزأ بحقوق الإنسان”، يمكن اعتبار هذا التصريح عن الانسحاب، العمل الأكثر صدقا وانسجاما مع مطلقي هذا التصريح وأفعالهم تجاه غالبية الأمم.

المهزلة تكمن في أن هذا التصريح أقام نوعا من التوازن في عالم أضاع بالكامل بوصلته، فإذا به يشكل لوحة حيّة لواحة رغيدة يكثر فيها نخيل أزرق اللون ويحمل تفاحا وثوما بعطر الورد، واحة وليس سرابا، لا تكاذب فيها لأن الكذب هو الحقيقة الوحيدة، هذا أكثر ما يمكن تمنيه في عالم يسير نحو فنائه بخطى ثابتة.

17