باعة الأرصفة تعبير عن البطالة في المجتمع العربي

لم يعد الرصيف في الكثير من الدول العربية مجالا للمارة، بل أضحى سوقا للتجار يسعون من خلاله لتجاوز الأزمات الاقتصادية وغلاء المعيشة. والرصيف لم يتحول إلى ساحة لنشاط الباعة الجائلين من البسطاء فقط، بل بات أيضا انعكاسا لسلوك طبقات اجتماعية مختلفة بعد أن انضم إليها أبناء طبقات أخرى بحثا عن مورد رزق يسد رمقهم، وبعد أن أصبحت الأسر الفقيرة تعوّل على الابن أو البنت لتأمين لقمتها وتدفع بهما إلى العمل في الشارع رغم المخاطر.
أطفال ونساء يعيلون أسرهم
رؤية الأطفال في الجزائر يعملون باعة على الأرصفة لمختلف المواد الغذائية مثل خبز المطلوع (خبز تقليدي) والبقدونس أو الخس أصبحت مشهدا عاديا في جميع مدن الجزائر حيث يدفع الاحتياج هؤلاء إلى تحمل مسؤوليات الكبار في توفير موارد للأسرة.
ينادي الطفل أمين الذي لم يتجاوز العشر سنوات بأعلى صوته “مطلوع سخون” للفت انتباه الزبائن من المارة على مستوى حي المحمدية شرقي الجزائر العاصمة، حيث يحاول الصغير المبتسم دوما بيع بضاعته للحصول على المال. ويقول أمين “ليس لدي أي خيار، إذ يجب علي العمل لمساعدة أهلي لأن دخلهم لا يكفي إلا لشراء الخبز والحليب”.
في حين يجتهد شعبان (12 سنة) في سوق بوغني بتيزي وزو في جر عربته المليئة بالخس محاولا باستحياء إيجاد مكان له وسط بقية الباعة الجائلين المتمرسين، إذ لا يجد الترحيب منهم.
وبحسب إحصائيات حكومية رسمية فإن 70 بالمئة من عمالة الأطفال في الجزائر تنشط في التجارة الموازية التي يقوم بترويج غالبية بضاعتها الباعة المتجولون، ويكون أغلبهم أطفالا دفعتهم ظروف معيشية قاسية نحو هكذا عمل بالرغم من مخاطره وتأثيراته الصحية والنفسية عليهم. كما أن 70 بالمئة من الأطفال المستغلين اقتصاديا في السوق الموازية يمارسون نشاطا تجاريا كباعة للخضر والسجائر.
وتؤكد المختصة النفسية ومسؤولة خلية الاستماع لشبكة الدفاع عن حقوق الطفل بالجزائر إيناس نقاوي قائلة “إن هؤلاء الأطفال يعملون إما لربح بعض المال دون إكراه وإما لمساعدة أهاليهم الذين يعانون الفاقة… إنهم غالبا ما يقعون ضحايا لوضع عائلي صعب لا سيما المتمثل في الطلاق أو أب معوق أو أم مريضة، ما يدفعهم إلى تحمل المسؤولية في إعالة عائلاتهم”.
الفقر والظروف المعيشية القاسية يدفعان الأسرة أو الفرد نحو التجارة غير القانونية لتلبية ضروريات الحياة اليومية
هؤلاء الأطفال كما غيرهم من الباعة يتعرضون لمخاطر هذا العمل من إنهاك جسدي وضعف بسبب كثرة التجوال أو الوقوف دون تناول غذاء متكامل ومنتظم. كما يعانون من متاعب وضغوط نفسية بسبب عملهم المضني، ما يجعل الصغار والضعفاء منهم عرضة للعنف وكذلك للتسرب المدرسي.
وفي تونس لا يمر يوم دون أن يرى كل من يجوب شوارع المدن خصوصا بالعاصمة دون أن يلاحظ طفلا أو فتاة أو امرأة أو كهلا أو مسنا واقفا على قارعة الطريق يبيع سلعة مثل الخبز أو الفول أو الذرة المطبوخة، أو منتقلا من سيارة إلى أخرى يطرق النافذة على سائقها لبيع مناديل السيارات وغيرها.
مشاهد يومية باتت تزعج المارة وأصحاب المحال التجارية، وتحاول السلطات السيطرة على الوضع فتقوم الشرطة البلدية بحملات مداهمة للباعة لطردهم، وبالرغم من كثافة هذه الحملات التي قد تشفع بحجز السلع المعروضة للبيع وبعقوبات جزائية للباعة، إلا أن ظاهرة الباعة على الأرصفة تزداد انتشارا.
يمارس هؤلاء الباعة نشاطا تجاريا غير قانوني ويبيعون أحيانا سلعا لا قيمة لها وفاقدة لكل معايير الجودة والسلامة الصحية خصوصا المواد الغذائية التي كثيرا ما تتسبب في أضرار صحية لمستهلكيها، لكن تجارتهم تستمر وإن لم تكن مربحة فإنها قد تكفي صاحبها لتأمين قوته اليومي.
ويتأفف المواطنون من مترجلين وسائقي عربات من احتلال هؤلاء لأرصفة الشوارع لأن ذلك قد يكون سببا في الكثير من الحوادث المرورية. وينتقد كثيرون ومن بينهم رجال السياسة والاقتصاد انتشار الظاهرة بعد الثورة في جل مناطق الجمهورية واتساع رقعتها الاجتماعية، حيث باتت تشمل كل الأعمار من الجنسين وأفرادا لم يكونوا محسوبين على الطبقة الفقيرة.
ولا تعد ظاهرة الباعة المتجولين ظاهرة جديدة في المجتمع التونسي، لكن استفحالها وارتفاع نسبة ممارسيها من قبل الأطفال والنساء من كل الأعمار باتا لافتين للانتباه. وبحسب باحثين في علم الاجتماع فإن هذه التغيرات لديها الكثير من التفسيرات الاجتماعية، أبرزها تدهور الظروف المعيشية للأسر من الطبقات الاجتماعية الهشة، وتزايد أعداد العاطلين عن العمل من البالغين، وتفاقم عجز أرباب الأسر عن إعالة أسرهم.
وجود النساء على أرصفة الطرقات ليس حكرا على المدن الكبرى حيث تجدهن على امتداد الطرقات السيارة السريعة والعادية في أغلب مناطق الجمهورية إلى جانب الأطفال، وهذا ما يبرهن، بحسب علماء الاجتماع، على أن الأسر الفقيرة في المناطق المهمشة وفي الأرياف المعروفة بسكانها المحافظين قد اضطرتها الحاجة إلى تغيير قناعاتها والقبول بتشغيل نسائها وبناتها وأطفالها في هذا العمل الذي يعرضهم إلى مخاطر الشارع.
إجراءات زجرية دون بدائل
راهنت الجهات الحكومية الرسمية في تونس وفي نظيراتها من الدول العربية على الحلول الزجرية باستعمال الشرطة والجهات الاقتصادية المختصة لأدوات تطبيق القانون على الباعة غير القانونيين لاعتبارهم ضمن قطاعات التجارة الموازية، إلى جانب احتلالهم أرصفة الطرقات وتموضعهم أمام المحال التجارية باستعمال القوة أحيانا، غير أن ذلك لم يحل الأزمة ولم يوفر حلولا لمشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية.
ويعتبر طيف واسع من منظمات المجتمع المدني ومن الحقوقيين في تونس أن الحلول الزجرية التي تعتمدها الدولة ليست إلا مؤقتة حيث لا يفرغ الشارع منهم إلا لدقائق، ثم يستأنفون نشاطهم، كما يرونها أحد وجوه استعمال الدولة للقوة في التعسف على حقوق مواطنين فقراء يحاولون كسب قوتهم دون السقوط في آفات مثل الجريمة والسرقة والتسول.
ويقول خبراء في الاقتصاد إن الدولة والحكومات المتعاقبة بتونس يجب أن تعترف أولا أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد ساهمت في استفحال البطالة وهي تمثل السبب الرئيسي لتطور ظاهرة التجارة الموازية. ويؤكدون أن الحل الأمثل بالنسبة لهذه الفئة هو العمل على إيجاد حلول لتطبيق استراتيجية للتنمية الاقتصادية تركز على النهوض بالفئات الاجتماعية الفقيرة وعلى تحسين أوضاعها المعيشية، وكذلك تعمل على توزيع عادل للثروات.
تزايد أعداد باعة الأرصفة في الشوارع سواء في تونس أو في غيرها من الدول العربية مثل الجزائر والمغرب ولبنان وسوريا والعراق لديها تقريبا نفس الدوافع، فجل هذه الدول تعاني في الفترة الراهنة من تدهور الظروف الاقتصادية التي أثرت على مختلف فئات المجتمع، إذ يدفع الفقر والظروف المعيشية القاسية الأسرة أو الفرد إلى التجارة غير القانونية لتلبية ضروريات الحياة من أكل وسكن ولتجنب الإحساس بالذل والهروب من ظواهر التسول والجريمة.
كما أن أثار وجود الباعة المتجولين أو على أرصفة الشوارع والطرقات تكاد تكون ذاتها في جل مدن العالم العربي، فهي تشوه جمالية الأحياء ونظافتها، الأمر الذي يمكن أن يزعج المواطن كما يزعج السائح القادم للاستمتاع بجمال المدينة خصوصا العتيقة، إلى جانب ما يسببونه من إزعاج للمارة من مترجلين وسائقي عربات وتعطيل الحركة المرورية، فقد يكون احتلالهم للرصيف مثلا سببا مباشرا في وقوع حوادث المرور، إلى جانب ما يصدر عنهم من فوضى وضجيج لجلب الزبائن.
ويرى مختصون في علم الاجتماع أنه على خلاف الكبار قد يجد الأطفال متعة وفائدة من وجود الباعة أينما تجولوا، حيث يكون لديهم كل ما يرغبون فيه من لعب (عادة ما تكون صينية الصنع) ومأكولات خفيفة تجتذبهم بروائحها الشهية فيجبرون أولياءهم على شرائها ولا يهتمون للجانب الصحي.
لم تعد الأرصفة مجالا للمارة ولسلامتهم في لبنان أيضا بقدر ما هي مساحات تجارية يحتكرها الباعة المتجولون يعرضون فيها جميع أنواع السلع من قطع غيار السيارات إلى الملابس والكتب والألعاب وأقفاص الخضر والغلال، ويعتبر مراقبون أن الدولة تتساهل في التعامل معهم ما يساهم في احتلالهم أرصفة الطرقات، فهي لا تتعامل معهم بأسلوب رادع، حيث تكتفي بتحرير خطايا مالية بشأن تجاوزاتهم، الأمر الذي يجعلهم يعودون إلى ممارسة نشاطهم التجاري الممنوع دون خوف من القانون.
الفقر والبطالة والتسرب المدرسي عقب الحرب التي شهدها العراق من الأسباب الأبرز لكثافة هذه الظاهرة ولتزايد أعداد الباعة على الأرصفة، خاصة في بغداد
وتستمر تجاوزات الباعة الجائلين في بيروت رغم صدور قرار من محافظ مدينة بيروت في أبريل 2017 قضى بمنع وجود الباعة المتجولين في مدينة بيروت وإلغاء جميع التراخيص الممنوحة سابقا، وجاء ضمن نص القانون أن جميع تراخيص تأدية مهنة البائع “السريح” على عربة ملغاة وكذلك منعت البسطات بأنواعها في جل شوارع المدينة.
الفقر والبطالة في قفص الاتهام
وتشهد الكثير من المدن والشوارع اللبنانية صراعات متصلة بين الباعة المتجولين وأصحاب المحال، وقد عمد البعض من أصحاب المحال التجارية إلى القيام باحتجاجات وأغلقوا الطرقات الرئيسية تنديدا بسماح السلطات البلدية لأصحاب البسطات والباعة المتجولين باستعمال الشوارع في فترة ما قبل عيد الفطر التي تعد موسم انتعاش تجارتهم بالنسبة إليهم، الأمر الذي ينعكس سلبا على نشاطهم التجاري القانوني.
ويواجه قرار منع التراخيص ومنع التجوال في شوارع المدن اللبنانية بغضب عارم في صفوف المعولين على هذه المهنة لكسب قوتهم دون توفير بدائل لهم.
وفي مقابل الصرخة الشعبية التي يطلقها الباعة الجوالون، يتمسّك الجهاز الحكومي بضرورة الحد من هذه الظاهرة التي يصفها بـ”اللا حضارية” في انتظار تأمين وظائف لائقة لهذا الصنف من الباعة الذين يعد أغلبهم من جنسيات أجنبية.
نفس الوضع نجده في العراق، إذ يكاد لا يخلو أي شارع من الباعة الجائلين وهم يعرضون مختلف البضائع، من قناني الماء وعلب الكلينكس والعلكة والشاي والقهوة الجاهزة وقطع القماش… ويكونون في الأغلب من المراهقين أو الأطفال الذين تسربوا من المدارس وفقدوا فرصة الحصول على التعليم، أو من الشباب الذين لم يتمكنوا من الحصول على عمل أو وظيفة في المؤسسات الحكومية.
الفقر والبطالة والتسرب المدرسي عقب الحرب التي شهدها العراق من الأسباب الأبرز لكثافة هذه الظاهرة ولتزايد أعداد الباعة على الأرصفة، خاصة في العاصمة بغداد. وكانت وزارة التخطيط العراقية قد أعلنت عن ارتفاع نسبة الفقر في العراق إلى مستويات ملفتة، وعزت ذلك إلى موجة النزوح التي شهدها العراق.