مكالمة من الجد إلى لاجئ معدم

في يوم من الأيام تلقى مكالمة من جده من والدته حيث مازال يقيم في الكونغو الديمقراطية، أوصاه بأن يعتني بأمه ويعمل على إسعادها وتعويضها كل ما فات. وعده روميلو بأن يحقق له المراد.
الجمعة 2018/06/22
تخطى كل الصعاب وحوّل العدم القاتل البائس إلى واقع يضج بالحياة والرفاهية

لو نتأمل حولنا، سنجد أن هذا العالم المحيط بنا مليء بالعبر والقصص المؤثرة والمواعظ. هو عالم يبدو لدى البعض محبطا ويدعو إلى الاغترار أحيانا والاستكانة في أحيان أخرى، لكن لدى البعض هو بالأساس عالم محفز يمنح كل الممهدات التي تدفع للانطلاق نحو الأمام والسعي إلى تغيير الواقع مهما كانت قسوته وصعوبته.

كل ما ينطبق على هذه الحياة المتعددة الأوجه والتناقضات قد يتجلى في بعض القصص الواردة علينا من روسيا حيث تقام حاليا منافسات كأس العالم، هذه المسابقة الرياضية الأقوى والأكثر هيبة وسحرا على وجه الأرض.

لقد استفزني منذ الوهلة الأولى نجم المنتخب البلجيكي روميلو لوكاكو، حفزني على متابعته ومعاينة تألقه في المباراة الأولى لمنتخب بلاده ضد نظيره البنمي، دفعني مستواه في تلك المباراة إلى مطالعة كل ما كتب عن هداف مانشستر يونايتد والمهاجم الأول لمنتخب “الشياطين الحمر”.

لقد نال هذا الفتى الأسمر صاحب البنية الجسدية الهائلة كل عبارات الإشادة والتنويه من قبل وسائل الإعلام في بلاده، كان فخرا للجميع هناك، لقد بدا أكثر من ذلك، فبوجوده في أوج العطاء تعاظم التفاؤل لدى البلجيكيين وزاد أملهم في تحقيق إنجاز تاريخي خلال هذه المسابقة العالمية.

وجدت نفسي مجبرا من حيث لا أدري على النبش في مسيرة لوكاكو وتقليب دفاتره القديمة، فكانت الأجوبة والحقائق التي اتسمت بها انطلاقة “الدبابة”، وهكذا يحلو للبلجيكيين مناداة اللاعب، أشبه بقصص “عظماء” التاريخ العصاميين الذين بدأوا من نقطة الصفر ليبلغوا عنان السماء.

فهذا اللاعب تخطى كل الصعاب وحوّل العدم القاتل البائس إلى واقع يضج بالحياة والرفاهية، نجح في أن يقلب كل الموازين ويغيّر مسار عائلة بأسرها كانت تعيش على الكفاف والعبثية والجوع.

لقد تحدث لوكاكو الذي خطف الأنظار في مباراة المنتخب البلجيكي عندما سجل ثنائية رائعة، عن طفولته، تحدث عنها وكأن في القلب بقعة من العتمة التي لا تنجلي أبدا، لقد كان طفلا مختلفا عن بقية أترابه، إذ عاش الحرمان والظلم في بيت العائلة وكذلك خارجه.

ويقول روميلو إنه نشأ في عائلة من أصول كونغولية هاجرت في نهاية الثمانينات ولجأت في بلجيكا، كان والده لاعب كرة قدم محترف سبق له التألق مع منتخب الكونغو الديمقراطية، لكن قسوة الحياة وظروفها المتمردة والقاهرة جعلته يخسر كل شيء ويقترن بالفقر والخصاصة خلال سنواته الأولى مع عائلته المصغرة في بلجيكا، ولد لوكاكو وبدأ يكبر وسط جو حزين كئيب في عائلة معدمة.

كان يكتفي خلال سنوات طفولته الأولى على مأدبة عشاء مكونة من حليب وقطعة من الخبز، يتذكر هذا اللاعب الهادئ تلك الفترة ويقول “كانت أمي تخلط الماء بالحليب، لم يكن الحليب يكفينا لنهاية الأسبوع، كنّا معدومين، لسنا فقراء فحسب، بل معدومين”.

يوما بعد يوم تطورت الأحداث في هذا المشهد الدرامي المستمر، فالوالد المفلس لم يعد قادرا على مجابهة المصاريف اليومية وسد حاجات أفراد عائلته، أما لوكاكو فقد كان في حالة جمود وذهول، لا يدري وهو في تلك السن المبكرة ماذا يفعل؟

لكن كان عزاؤه هو الركض مع أقرانه في الحي خلف الكرة، كانت بنيته الجسدية الهائلة تساعده على أن يتغلب على الجميع. أدرك وهو الابن الواعد للاعب كرة سابق أن بمقدوره أن يتخذ المضي قدما في هذا المسار طريقا للنجاة والإفلات من العدم.

قرر أن يصبح لاعبا فذا ووضع نصبه عينيه أن يحترف بعد سنوات قليلة ضمن أقوى فريق بلجيكي وهو إندرلخت.

لم تكن الطريق مفروشة بالورود، فالعمل الجدي وحرصه على استثمار قوته الجسمانية منحاه القوة والصبر، فتحقق له ما أراد رغم أنه عانى من عنصرية غير مبررة، فعندما كان لاعبا يافعا يتبارى ضد أنداده، كان أولياء منافسيه ينظرون إليه بعين الريبة والسخرية بسبب حجمه الكبير وطوله الفارع، لم يصدقوا أنه مازال صغير السن، فأضطر في أحيان عديدة إلى الذهاب للتمارين بأوراق تثبت عمره الحقيقي كي يسكت كل أفواه المشككين.

في يوم من الأيام تلقى مكالمة من جده من والدته حيث مازال يقيم في الكونغو الديمقراطية، أوصاه بأن يعتني بأمه ويعمل على إسعادها وتعويضها كل ما فات. وعده روميلو بأن يحقق له المراد.

23