ولي النعم والصحافة.ّ. سرادق للإعلام المصري

في إعلان للمسؤولية عن التعاقد بين القارئ وبيني، كتبت في عدد أغسطس 2014 بمجلة «الهلال» أنني أبدأ تجربة رئاسة تحريرها «غير مثقل بأي فاتورة.. لست مدينا لأحد بشيء، إلا للقارئ، هو سيد يأمر في أي وقت، ويطلب كشف حساب، وله أيضا أن يفتش في الدفاتر القديمة، والكتابة فضيحة لا يسهل سترها، تشهد لصاحبها أو عليه، فالنشر لا يبلى، والذنب في الكتابة لا ينسى».
تجربة لم أخترها، وكنت قبلها أتسلح بمقولة السيد المسيح «ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير»، وخلالها لم أنس أن القارئ هو ولي النعم، وأنه المستهدف النهائي، وأنه لا يرحم ومن حقه ألا يرحم، وأن علي ألا أضلله أو أدللـه، وتلك معادلة ترجع إلى بدايات الصحافة ومهنة النشر عموما، وتتلخص في القدرة النسبية للممول على فرض شروطه، وتحديد الاتجاه، فهو المانح المانع، القابض الباسط.
وهذه واقعة دالة تبين فيها الخيط الأسود في العلاقة بين الصحافة والسلطة من الخيط الأبيض، ونسفت مساحة رمادية اختبأ فيها بالحيلة هامش للحريات، كما أوضحت الواقعة نفسها المسافة الزمنية بين السكرة والفكرة.
ففي يوم الأحد 1 مايو 2016، اقتحمت عناصر من الشرطة مقر نقابة الصحافيين بالقاهرة، وفي السكرة أجمعت الصحف الرسمية على أن الواقعة «جريمة»، فحمل غلاف مجلة «المصور» عناوين حاسمة: «تكميم الأفواه.. الحرية في خطر.. أين الرئيس من جريمة اقتحام نقابة الصحافيين؟»، وعالجت القضية في ملف من 60 صفحة.
ونشرت صحيفة «الأهرام» في 4 مايو 2016 تغطية موسعة مصورة لجمعية عمومية طارئة طالبت «بإقالة وزير الداخلية»، واستنكرت افتتاحية الأهرام السلوك «المشين باقتحام نقابة الصحافيين.. ارتكبت وزارة الداخلية أخطاء عدة خلال الفترة الماضية واختتمتها بتصرفها المؤسف في حق الصحافيين والإعلاميين، فهي لن تنجح في مرادها الخبيث بتكميم الأفواه.. وإذا هب هذا الشعب لنيل حريته لا يوقفه أحد ولا أعتى متاريس الأمن وسلاحه».
وفي اليوم التالي، بعد 24 ساعة فقط، فوجئنا بصحيفة الأهرام غير الأهرام، ففي الصفحة الأولى نشرت تقريرا عن «فشل عقد جمعية عمومية للصحافيين»، ويعلو التقرير مقال لرئيس التحرير في الصفحة الأولى، عنوانه «ضد تسييس نقابة الصحافيين»، فلا أسهل من مد الأيدي إلى الأدراج، وسحب الأضابير بغبارها وهوائها السام، واستخراج قاموس يرفض «افتعال الأزمات والصدام مع الدولة».
قبل الانتقال إلى المشهد الثاني، وفيه أرصد ذهاب السكرة ومجيء الفكرة، يذكرني شيطان أفلت من سلاسل تقييد إخوانه الشياطين في شهر رمضان، بحوار في سبعينات القرن العشرين، طرفاه أحمد بهاءالدين ووزير الداخلية ممدوح سالم.
لم يعهد على بهاءالدين إلا احتفاظه بنظافة يده ولسانه ونقاء ضميره وحرصه على استقلاله، وفي اللقاء أبدى غضبه للوزير من افتراءات صحافيين وشاة ينقصهم الصدق، فلم ينكر الوزير وفرة هؤلاء، ووجه إلى بهاءالدين سؤالا: «هل لك أن تدلني على شخص محترم يقبل هذا العمل، ولن أتردد في الاستعانة به».
انتهت سريعا فقرة الشيطان الهارب، فلأعد إلى مشهد الفكرة بعد أن أمر ولي النعم بإزالة آثار السكرة. في الأيام التالية، تم رفع شعار «تصحيح المسار»، وتبناه «دهاة» دعوا إلى اجتماع في الأهرام، ربما من دون دفع قيمة إيجار القاعة الكبرى لخزينة المؤسسة المتعسرة ماديا.
وحضرت وجوه لا تخفي ولاءها لنظام حسني مبارك، وتكره ثورة 25 يناير 2011، منهم صلاح منتصر ومرسي عطا الله وإبراهيم حجازي ومكرم محمد أحمد رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وهو موقع قريب من منصب وزير الإعلام الذي لم يعد موجودا بعد إلغاء الوزارة.
أما الآخرون فتم اختيارهم رؤساء لتحرير الصحف والمجلات الحكومية، بعد ثلاثة أسابيع من الاجتماع الذي طالب بسحب الثقة من مجلس نقابة الصحافيين، وشدد فيه رئيس تحرير الأهرام على أن الحضور حريصون على احترام «رئيس الجمهورية البطل الشعبي الذي تقدم الصفوف لإنقاذ هوية الوطن والدولة من جماعة فاشية».
ومن المفارقات أن يستبعد من منصب رئيس تحرير الأهرام؛ فولي النعم لا يحتمل خطأ عابرا، كما جاء في الافتتاحية التالية لاقتحام النقابة، وفيها كلام عن الحريات وقدرة الشعب على تحدي «متاريس الأمن وسلاحه».
كانت المعالجة المتعجلة صوابا مهنيا احتسب خطأ، لم يكن الأداء التقريري الموضوعي محسوبا بدقة، مجرد سهو في سكرة، ساعة شيطان، خطأ لا يجدي بعده الاعتذار، ولا تغني محاولات التصحيح، وهو درس يعيه رؤساء التحرير الذين تتأكد لهم خطورة أن تكون صاحبا لولي النعم، وأن تظن نفسك بمأمن ولو كنت راكب أسد، بالذات لو كنت هذا الراكب، مع حفظ الحقوق الأدبية لعبدالله ابن المقفع.
لا يخطئ القراء الآن إذا قالوا إن الصحف المصرية تشابهت علينا، ومن شدة التشابه بين صحيفة وأخرى، وبين الصحيفة نفسها أمس واليوم وغدا لا يتوقع إلا الكساد، وانهيار التوزيع، واعتماد أغلب الصحافيين على إعانة شهرية حكومية، وهذه نتيجة تلقائية لتراجع الكفاءة والحرص على ما يظنه رؤساء التحرير إرضاء لولي النعم.
وفي مصر قاعدة أقرب إلى الحقيقة، وتخص القراءة بلمح البصر للصحف الحكومية في اليوم التالي لخطب الرئيس أو جولاته وأنشطته، أي رئيس ربما باستثناء جمال عبدالناصر الذي يستدعى في كل مأزق، كأنه يعلق من العالم الآخر على تسليم جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، أو على العدوان التركي على سوريا.
حتى في ظل التنظيم الوحيد وإلغاء الأحزاب في عهد عبدالناصر، كان التنافس المهني قائما بين قامات تنسب إليهم المؤسسات والصحف والمجلات؛ لأنهم أكبر من المناصب، يغادرون الكراسي فيزدادون بريقا: محمد حسنين هيكل، أحمد بهاءالدين، كامل زهيري، فتحي غانم، إحسان عبدالقدوس، فخلف من بعدهم محدودو الموهبة، والبعض منهم لا علاقة له بالكتابة، واشتهر أحدهم بأن «كتابه أكثر من قرائه».
وفي أزمة عارضة بين نظام مبارك والمملكة، حذف رئيس تحرير كلمة «السعودية» من خبر عودة شخص مشهور من أداء العمرة بالمملكة، واستبدل بالسعودية «بعد عودته من أداء العمرة بإحدى الدول العربية»، وكان يكفيه أن يقول «من مكة، أو الأراضي الحجازية»، أو أن يصمت. ومن الطرائف أنه الآن، وبعد تقاعد دام أكثر من عشر سنوات، يكتب مقالا يوميا، وحدث أن أعيد نشر أحد مقالاته، فلم ينتبه إلى ذلك قارئ أو مصحح أو مسؤول في الديسك، لأن المقالات فاقدة الملامح ولا تقول شيئا. هو الذي انتبه.
من المؤشرات الخطيرة في جائزة دبي للصحافة ألا تذهب إحداها إلى صحيفة حكومية مصرية، وينالها موهوبون في صحف خاصة، تحافظ على هامش استقلال يتناقص، كما يتناقص توزيع الصحف الحكومية التي يختفي منها أي رأي ينتقد السياسة العامة والأداء الحكومي، وتبدو مشغولة بإرضاء شخص واحد أو عدة جهات أمنية، حتى أن كثيرا من الكارهين للإخوان اضطروا إلى متابعة فضائياتهم؛ هروبا من الصوت الواحد إلى أي اختلاف ولو كان كريها.
في 8 فبراير 2015، مات بالاختناق والتدافع 22 مواطنا، في قفص حديدي باستاد الدفاع الجوي قبل مباراة الزمالك وإنبي. وبقيت من تلك التراجيديا صرختهم «افتح بنموت»، وهي صرخة يرددها الغيورون على الوطن، وعلى الصحافة المحاصرة في سرادق. وأنت تعلم أن سرادقات العزاء لا يتبادل فيها الحضور إلا كلمتي «البقاء لله».
لا أميل إلى الكتابة عن شؤون الصحافة وشجونها، وأتعلق بآخر أمل يؤجل إقامة السرادق، ويعيد الحياة إلى كائنات في غيبوبة، ثم جاء مقال «كيف نجعل الصحيفة قابلة للقراءة» لكرم نعمة في صحيفة «العرب» في 2 يونيو 2018، ليثير المواجع، فليسامحه الله.