الكتابة الساخرة لم يعد لها مكان في الصحافة العربية

القاهرة – شهدت الصحافة العربية المعاصرة تغيرات عديدة بينها تراجع الكتابة الساخرة بعد أن كانت جزءا من وجدان القارئ، وقد خصصت صحف كثيرة ملاحق وأبوابا وصفحات لجذبه إلى هذه الكتابة الخفيفة العميقة.
وتوقفت إصدارات كانت أصلا ساخرة، دون أن تُنتج الصحافة الحديثة مبدعين في الكتابة الساخرة من عينة محمود السعدني وأحمد رجب ومصطفى حسين ومحمد الماغوط ومحسن الصفار ويوسف غيشان وداود الفرحان وحتى من يجيدونها ولا يزالون على قيد الحياة تراجعوا عن الاهتمام بها.
ويعزو البعض هذا التراجع إلى الأزمات المتلاحقة التي تعيشها المنطقة، والهموم اليومية التي لم تعد تحتمل هذه الكتابة، فضلا عن ضيق مساحة الحرية في الصحافة العربية التي ساهمت بقوة في هذا التراجع. فهذه الصحافة، كتابة أو رسما، تحتاج لمساحة واسعة من الحرية لتمارس دورها.
وأوقفت مؤسسة الأهرام، كبرى المؤسسات الصحافية الحكومية في مصر، ملحقا ساخرا كان يصدر كل أسبوع بعنوان “الساخر”. كما أوقفت مؤسسة أخبار اليوم ملحقا ساخرا كان يصدر كل سبت بعنوان “النهار ده إجازة”.
وتوقفت أيضا تجارب مستقلة في الكتابة الساخرة بسبب ظروف مالية وإدارية، مثل مجلة “كاريكاتير” التي أصدرها الفنان الراحل مصطفى حسين، وجريدة “اضحك للدنيا” التي كان يترأس تحريرها الإعلامي خيري رمضان. كما غابت روح الكتابة الساخرة التي عرفتها صحف مصرية مثل “الدستور” و”صباح الخير” و”روز اليوسف”، مع تغييرات طرأت على هياكل تحريرها.
وفي سوريا لم تحتمل السلطة استمرار صحيفة “الدومري” الخاصة فأغلقتها، بسبب نقدها الساخر، كما لم تصمد صحيفة “الدبور” التي كانت تصدر كل ثلاثاء.
وفي العراق كانت الكتابة الساخرة لونا أدبيا هاما في معظم الصحف قبل أن تتقلص، وعرفت بغداد صحفا ساخرة عدة، أبرزها جريدة “الكاروك” وهي جريدة أسبوعية ساخرة مستقلة، صدرت في أغسطس 2007، ثم توقفت بعد عام لضعف الإمكانات.
ولعبت عوامل عديدة دورا في تراجع الكتابة الساخرة، منها التطور التكنولوجي الذي أدى إلى إطلاق منابر تعبير جديدة عبر صفحات التواصل الاجتماعي، احتضنت الكتابات الساخرة وحولتها إلى مادة يتابعها الجمهور ويتفاعل معها.
ويقول الكاتب الساخر هشام مبارك لـ”العرب”، “اتسع نطاق صفحات النكت والسخرية على موقع فيسبوك بصورة غير مسبوقة خلال السنوات العشر الأخيرة”.
وظل هشام مبارك على مدى عشرين عاما يكتب مقالا ساخرا في جريدة الأخبار الحكومية قبل أن يتوقف أخيرا، وله سلسلتان ساخرتان بعنواني “أنا والمدام والعيال” و”هي دي مصر يا هبلة”.
ويرى أن الجمهور انصرف إلى متابعة الكتابة الساخرة على مواقع التواصل، لأنها أسرع وأيسر وأشمل، مشددا على أن هذه الكتابة بحاجة إلى متنفس كبير من الحرية، وهو ما نجح الإنترنت في توفيره على حساب الصحف التي تتعرض لضغوط حكومية.
وأضاف “الحدث لا تمر عليه دقائق حتى يتحول إلى مادة للتندر على محيط أوسع يسمح بالتعليق أو المشاركة المباشرة وإضافة عبارات ساخرة، عكس الصحف التي تقدم الكتابة الساخرة دون مجال للتفاعل”.
وأشار مبارك إلى أن المشاركة الواسعة للشباب ورواد التواصل الاجتماعي في الكتابة الساخرة كشفت عدة حقائق كانت غائبة، أهمها أن هناك مبدعين ساخرين كثيرين لا يعرفهم الناس وليس لديهم طريق للوصول إلى الصحف المعروفة، كما أن الكثير مما يطرحه البعض يعتبر إبداعا ساخرا ضعيف المستوى، ويستخدم لغة بعيدة عن الشباب، كانت مضحكة منذ عقود، غير أنها لم تعد كذلك.
ويؤكد بعض الخبراء أن ثاني عوامل التراجع يمكن ربطه بمساحة حرية التعبير التي تقلصت، وإضافة نصوص تشريعية مقيدة، علاوة على اتساع الرقابة والتوجيه على الصحف من جانب الحكومات والأجهزة المعاونة لها.
وأصبحت الرقابة المجتمعية أكثر تقييدا، مع إنشاء أجهزة لتنظيم الإعلام والصحافة، تعمل في حقيقة الأمر لتوجيه الصحافة والحد من السخرية والنقد اللاذع. ويوضح مبارك لـ”العرب” أن بعض الحكومات تعلم أن الكتابة الساخرة سيف مسلط على رقابها، لا بد من تكسيره، لأن السخرية، كتابة أو أداء، العدو الأول للأنظمة الحاكمة.
ويرجع خبراء السبب إلى الارتفاع المتوالي لأسعار الورق وتكلفة الطباعة واضطرار الكثير من الصحف لتخفيض عدد صفحاتها، ما أدى إلى التضحية بصفحات الكتابة الساخرة لصالح المتابعات الخبرية والتحليلات السياسية.
ويقول سيد عبدالعاطي رئيس تحرير جريدة الوفد المصرية السابق لـ”العرب”، إن ارتفاع تكلفة الطباعة نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية انسحب بشكل مباشر على الصحف المطبوعة، فخفضت من عدد صفحاتها، لكن ذلك وحده لا يبرر تراجع الكتابة الساخرة، لأن معظم الصحف لديها مواقع إلكترونية يمكنها ضخ كتابات لا حصر لها من خلالها، مؤكدا أن هناك “فقرا حقيقيا في فن الكتابة الساخرة بسبب وتيرة الأحداث المدهشة والمفاجئة”.
ويكرر آخرون ما يقوله عبدالعاطي بمقولة “الواقع صار أكثر سخرية من الخيال”. وثمة تفسير آخر يقدمه أسامة السعيد مدرس الصحافة بالجامعة البريطانية في القاهرة، يرجع إلى تداعيات صعود التيارات الدينية على الكتابة الساخرة خلال السنوات الماضية، فهم يعتبرونها “أمرا مرذولا ومحرما”.
وكشف لـ”العرب” أنه يعرف كاتبا موهوبا في الكتابة الساخرة كان ينتمي لجماعة الإخوان في مصر، صارحه قبل سنوات بأنه “توقف عن الكتابة الساخرة لأنها حرام”.
ولم ينكر السعيد أن هناك فقرا إبداعيا في مجال السخرية، بعد رحيل كتاب وأعلام في هذا المجال، لافتا إلى أن الكثير من صفحات السخرية على مواقع التواصل تحمل قدرا من الإسفاف والاستخفاف.