الرئيس النوبلي يوسا مثالا

هؤلاء الأدباء لهم رصيد جماهيري وسياسي وظروف ديمقراطية حقيقية وشعوب تتقبل الرأي والرأي الآخر وتساهم في شيوع الثقافة الحرة عبر الوسط السياسي.
الخميس 2018/05/31
يوسا: "السياسة هي شقُّ الطريق بين الجثث"

تأخذ الثقافة معرفتها من ينابيع متعددة تضفي عليها نشاطاً وحيوية معرفية على مدار التاريخ الإنساني، بينما تتشرب السياسة من نبعٍ واحد مكرر على مدار التاريخ وهو نبع السلطة الجاف، وليس أمامنا سوى النظر بين الاثنين وجدليتهما التاريخية بل وعدائهما الواضح  في موضوعة السلطة وأحقية أي منهما في قيادة المجتمع، وثبت دائماً أن السياسة تتغلب على الثقافة في المجتمعات الإنسانية كلها وهو أمر مفروغ منه تقريباً، فالشقة بين الاثنين كبيرة حينما لا نطلق على السياسي لقب “مثقف” ونأخذ عليه بجريرة كونه “سياسياً” في إيعاز واضح للانتقاص منه.

يقودنا الحديث إلى ما آلت إليه الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة بعدما رشّح عدد معين من الأدباء والمثقفين والأكاديميين إلى الانتخابات ضمن قوائم حزبية – طائفية، لكنهم فشلوا فشلاً جماعياً في الحصول على أية نتيجة، وهذا أمر متوقع بل ومكشوف جداً بأن مرشحي هذه الشريحة لا يمكنهم تحقيق المنال السياسي بسهولة لا سيما وقد تنصّلوا مبدئياً من كونهم مثقفين وواجهة اجتماعية واعية والتحقوا بفصائل سياسية مشكوك فيها كثيراً خاصة الفصائل التي ترتدي العباءة الإسلامية.

واقع الحال ونتائجه المفاجئة وغير المفاجئة أشارا إلى هزيمة المثقفين من شعراء وأدباء وأكاديميين وصحافيين وشخصيات مدنية عامة أمام تدفق أسماء حزبية مغمورة وأخرى طائفية ومذهبية معروفة وعشائرية هامشية طارئة اكتسحت صناديق الاقتراع بطريقة أو بأخرى مع وضوح التزوير هنا وهناك.

ولكن هذا لا يعفي من أن يكون مثل هؤلاء المثقفين قد أخطأوا في هذه المبارزة غير المتكافئة أكثر من خطأ يُحسب عليهم لا سيما إذا اتفقنا على أن ثقافة الانتخابات العراقية غير جاهزة حتى بنسبتها القليلة، وثمة سوء فهم لمعنى السياسة وثمة سطحية أيضاً كشفتها السنوات الفائتة في ضحالة مَن تولوا قيادة البلاد ولا نعرف على أي الأسس والتبريرات التي يقدمها المثقفون الذين خاضوا في هذه اللجة الفاسدة التي تديرها عصابات طائفية مرتبطة بدول الجوار في الأغلب الأعم.

صنّاع الوعي الجماعي والجمالي الذين انخرطوا في هذه “الأسلمة الانتخابية” المفروضة على الشعب العراقي لم يستطيعوا أن يحققوا حتى نِسباً صغيرة معقولة، وهي احتمالية متوقعة أمام فائض من الرعاع تكدسوا في المراكز الانتخابية، فكيف يمكن لهذه الفصائل المتبجحة بالجمال والكتابة أن تصمد أمام هذا الزحف الكبير الذي لا يولي الثقافة أية قيمة اعتبارية بل حتى لا يفقه أبسط أبجديات السياسة، تلك التي وصفها وصفاً عظيماً الروائي البيروفي ماريا فارغاس يوسا بقوله “إن السياسة هي شقُّ الطريق بين الجثث”.. وهو المرشح الرئاسي في البيرو عام 1990 الذي فشل وقتها فشلاً ذريعاً، لكنه نجح نجاحاً كبيراً كونه روائياً وحصل على جائزة نوبل للآداب عام 2010، بالرغم من كونه تقلّب سردياً في السياسة بين اليمين واليسار.

وليس يوسا مثالاً وحيداً على المثقف الذي حاول أن يصل إلى السلطة، فهناك ليوبولد سنغور أول رئيس للسنغال بعد الاستقلال، والمسرحي فاتسلاف هافل رئيس تشيكيا وتشي غيفارا القائد الاشتراكي الذي كان يؤلف الشعر وغسان كنفاني الذي زاوج بين السياسة والأدب وغونتر غراس الذي عُرف بمواقفه السياسية المتعددة إزاء قضايا العالم.

مثل هؤلاء الأدباء لهم رصيد جماهيري وسياسي وظروف ديمقراطية حقيقية وشعوب تتقبل الرأي والرأي الآخر وتساهم في شيوع الثقافة الحرة عبر الوسط السياسي. لكن ماذا عن أفراد “جماعتنا” الذين ألقوا أنفسهم في هذا المحيط الطائفي المتلاطم؟ ومن دون عدّة مسبقة وبلا رصيد جماهيري أو حتى إبداعي يُشار إليه؟

فهل القضية هي مكاسب مادية شخصية ؟ فإذا كانت كذلك فما الفرق بينهم وبين المرشحين المجهولين الآخرين ؟ أم هي “ترصين” طائفي يجترحه التفاعل اللاواعي في قضية وطن هو أكبر من الطائفية ومشتقاتها؟

14