هاري وميغان: الزواج الجديد بين أوروبا وأفريقيا

هاري وميغان حطما بزواجهما جدران قلاع من القيود والمقدسات الملكية والتاريخية والاجتماعية بين البشر وبين الدول بل وبين القارات.
الاثنين 2018/05/21
زواج ملكي يتمرد على التقاليد

حين أمسك الأمير البريطاني هاري بيد زوجته الممثلة الأميركية  ميغان ميركل بعد إتمام طقوس زواجهما في الحفل التاريخي المذاع من قصر وندسور ليشاهده 2 بليون من البشر، وراح يدوس السجادة الحمراء المفروشة بالورود، ربما لم يكن، ومعه الكثيرون، يستوعب تماما أنه لم يكن يدوس الورود فقط، لكنه مع زوجته الجميلة السمراء كانا يدوسان على عدد من التقاليد والمحرمات التاريخية ذات الثقل الهائل لميراث عرش ملكي يرجع إلى ألف عام، هو بلا شك العرش الأقوى في تاريخ الملكية في العالم.

فقد حطم هاري وميغان بزواجهما جدران قلاع من القيود والمقدسات الملكية والتاريخية والاجتماعية بين البشر وبين الدول بل وبين القارات، فهو زواج يجمع بين الوريث السادس لأهم عرش ملكي في أوروبا، وممثلة أميركية من أصول سوداء أفريقية، هو زواج يتخطى حدود القارات الثلاث، ويتخطى حضارات وثقافات ثلاث تختلف في كل شيء تقريبا، فهو الزواج الأكثر إدهاشا وطموحا، سواء كان حدث الزواج واعيا لكل هذا، أم كان بريئا لم يفعل سوى الانجراف وراء نداء الحب بين قلبين شابين، عملا بوصية نشيد الإنشاد الجميلة التي تخاطب فيها العروس حبيبها قائلة، “اجذبني وراءك فنجري”.

حطم هذا الزواج الذي أثار دهشة وانبهار العالم عدة محرمات في نفس الوقت، فقد تزوج أمير بريطاني من خارج العائلة الملكية، وهو أمرٌ نادر الحدوث، ليس هذا فحسب ولكن العروس مطلقة، وكان هذا محرما من قبل، ففي الثلاثينات من القرن الماضي اضطر  الملك إدوارد الثامن إلى أن يتخلى عن العرش لأخيه من أجل الزواج بامرأة أميركية مطلقة عاش معها سعيدا بعد ذلك، حسب مذكراتها، وربما كانت قصته غير غائبة عن وعي الأمير هاري.

الزواج الملكي بين وريث لعرش الإمبراطورية البريطانية وامرأة سوداء من أصول أفريقية هو نهاية رمزية لعصور من العبودية 
 

ولكن العروس ميغان ليست مطلقة أميركية فحسب، فهي أيضا ممثلة، وقد كان التمثيل حتى فترة قريبة ينظر إليه اجتماعيا نظرة دونية، فهي ليست "سليلة الحسب والنسب" لكنها من عائلة بسيطة، وفوق هذا فالعروس مختلطة عرقيا، فوالدها أبيض ووالدتها سوداء من أصول أفريقية، وبهذا يكون هذا الزواج قد حطم عددا من أكبر المحرمات الاجتماعية التي كانت ولا تزال تقف أمام الكثيرين فتمنع تمتعهم بحرية إنسانية كاملة.

هذا الانتصار على الحواجز التقليدية الموروثة لمئات السنوات هو ما أعطى هذا الزواج بريقه اللافت، فهو زواج محمل بروح العصر، يحلق بأجنحة الفكر الحر والرؤية الإنسانية الواعدة الجميلة، وكأنه قد أقسم على تحقيق الأساطير البشرية التي كانت تلهب المخيلة الإنسانية دائما، أسطورة الأمير الذي يقع في حب فتاة من الشعب ويقف ضد الجميع ليتزوجها، أو العكس.

ثم هو زواج بين وريث لعرش الإمبراطورية البريطانية الهائلة وامرأة سوداء من أصول أفريقية لبلاد خضعت طويلا للمستعمر الأوروبي يمتص مواردها والتاجر الأميركي يختطف عائلاتها لبيعها كعبيد ماحقا إنسانيتها لقرون طويلة، فهي إذن نهاية رمزية لعصور من الوحشية والعبودية، فبدلا من العلاقة الاستعمارية الاستغلالية، لدينا الآن نموذج لعلاقة محبة وإعجاب واحترام وتقدير من أمير بريطاني لامرأة سمراء من أصول أفريقية، لعله تكفير عن خطايا الماضي، لعله وعد بمستقبل أجمل وأعدل.

Thumbnail

وقد جاء حفل الزواج نفسه بكل تفاصيله وطقوسه وخطواته المرسومة بدقة ليعكس كل هذه التغيرات والانفرادات المدهشة والمثيرة، فعلى عكس حفلات الزفاف الملكية البريطانية التقليدية المحافظة التي تتسم عادة بالمناخ الأرستقراطي الهادئ، جاء هذا الحفل ليكسر هذا التقليد.

فكانت عظة المطران الأميركي الأسود مايكل كاري تتميز بالدينامية الدرامية الصاخبة المعتادة لدى كنائس واجتماعات السود الأميركيين المحبين للحركة والرقص والغناء في صلواتهم، في حيوية أفريقية غير معتادة لدى المزاج البريطاني الهادئ البارد المنضبط، وألقى المطران كاري عظة ملتهبة فعلا ومعنى، فقد تحدث عن أن اكتشاف النار كان نقلة هائلة في مسيرة التقدم البشري، وكذلك يمكن لنار المحبة لو اندلعت بين البشر أن تكون النقلة النوعية الثانية الهائلة في مسيرة التقدم الإنساني.

ودعا المطران الحضور أن يتخيلوا العالم لو كانت المحبة هي طريقه، يتخيلوا المجتمعات والسياسات والدول لو كانت المحبة هي طريقها، واستحضر رسالة الزعيم الأميركي الأسود مارتن لوثر كنج عن التلاقي حول مائدة الإخاء الإنساني، فكانت دعوته للمحبة الإنسانية بين البشر علي اختلاف مشاربهم بأسلوبه المتحرر من قيود الوقار الديني المصطنع الذي هو تطعيم مثير للجسد الثقافي البريطاني العريق بأمصال الصبا والشباب الأفريقي الأميركي المشترك، بحركته المتوثبة نحو المستقبل، وربما كانت هذه الطبيعة الصبية العفوية المتأججة هي ما أثار شغف الأمير الشاب هاري بعروسه ميغان التي رأى فيها كل ما هو مختلف عن وسطه وتراثه البريطاني المحافظ الهادئ.

ولم يكن وجود المطران الأميركي الأسود شيئا رائدا يحدث لأول مرة في حفل زواج بريطاني ملكي كهذا فحسب، إذ أن هذا المطران هو نفسه يمثل نقلة خارقة للتاريخ والتقاليد في بلده الولايات المتحدة، فهو أول رئيس أسود لكنيسة طائفة الإيبسكوبال الأميركية، أي أنه يمثل نقلة تاريخية للكنيسة، كما أنه جاء بعد أول امرأة رئيسة لنفس الطائفة، فهي سلسلة من النقلات التاريخية النوعية تلاقت كلها في حفل الزفاف الملكي المختلف المحطم للكثير من التقاليد، في إشارة إلى نهاية عهد محافظ طويل للإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس، وبداية عهد جديد يافع يعيش أفكار عصره متحررا من ثوابت الماضي وسلاسل المراسيم الجامدة.

لقد جاء الاهتمام الإنساني الواسع بحفل الزفاف تعبيرا طبيعيا عن رغبة البشر في المشاركة في حدث بهيج، بعد أن غرق العالم لسنوات طويلة، ولا يزال، في أحداث دامية لحروب وخراب في كل مكان. وكان هذا الزفاف الملكي بالذات وعدا بأفق إنساني أكثر سعة وتحررا واحتضانا للجميع، فخلب مخيلة المتعطشين لعالم مختلف آن له أن يعرف أفراح المحبة وأناشيد الأخوة الإنسانية.

6