بالاختلاف تحيا المشاعر

نسير في دروب الحياة نقابل بشرا من مختلف الأشكال والأجناس والألوان والديانات، والعقائد والمعتقدات، لو توقفنا عند الاختلاف وصنعنا منه خلافا ما أثمرت العلاقات.
الاثنين 2018/02/19
جميع علاقتنا تحتاج إلى تحذير وتعمق

جمال الاختلاف قوة، يحكي التاريخ أن عجوزا مسنة يملأ جسدها العديد من الأمراض، وتهاجمها الأوجاع في كل حين، ويضنيها أقل جهد عضلي، ثقلت حركتها شيئا فشيئا ولكن ليس لديها أبناء ولا جيران يقومون بخدمتها.

لذا كانت تعتمد على ذاتها في تنظيف منزلها البسيط المتواضع، تكنس التراب، وترطب الأرض بالمياه، وتطبخ الطعام لتوزعه على المارة في الطريق العمومي، كل يوم تملأ إناءين بالماء العذب لأغراض عدة، وكان النهر بعيدا جدا عن منزلها، تمشي لمسافة طويلة لجلب الماء، تأخذ الجرتين كل صباح وتذهب لملئهما، ثم تعود لمنزلها، أحد الإناءين كان مشروخا شرخا كبيرا ولا يستطيع الحفاظ على الماء بداخله لمدة طويلة، فكانت المياه تتسرب منه، وحين تعود العجوز إلى منزلها تجد نصف الإناء فارغا، فلا تهتم وتفرغ الباقي في إناء آخر لتستهلك ما تبقى معها من ماء.

ظل الحال على هذا الوضع الكارثي في أعين أهل القرى البعيدة عامين كاملين حتى اتهموا العجوز بالجنون والعته، وهي كما هي لا تغير مسلكها مهما ضاق عليها الخناق بالسخرية والأذى. طالبوها بإلقاء الإناء المشروخ بعيدا أو تحطيمه بعدما أصبح بلا فائدة ولكنها رفضت.

وبعد هذه المدة الطويلة استحى الإناء المشروخ من إهدار جهد العجوز المسكينة، وقال لها: أخجلتني، أهدر مجهودك على الأرض بتسريب المياه دون فائدة، وأنت على عهدك معي لا تستبدلينني بآخر، فلماذا؟

ضحكت العجوز وقالت: أنت رأيت الماء ينسكب منك ولكن لم تر كمّ الأزهار الهائل الذي نبت في الطريق، ولا الورود الجميلة التي نبتت في منزلي فحولته لحديقة غناء، كهذا تعاملت مع كسرك بالمودة، فصرت أبذر الحبوب على طول الطريق، فإذا ما سرت بمكان تسقي أنت البذور دون أن تدري، فتصير أزهارا جميلة تسر الناظرين، فلولا الشرخ البسيط لديك، ما استطعت أنا العجوز المريضة سقاية الأرض، فهكذا نحن نكمل بعضنا البعض.

القصة عادية قد تمر علينا آلاف المرات ونستمع إليها في الموروث الشعبي دون أن تثير لدينا فضولا ولا تحفزنا للمعنى الحقيقي من ورائها. في نظري أن جميعنا يملك هذا الإناء المشروخ المعيب ولكن ليس جميعنا يملك حكمة العجوز التي حولت العيب إلى ميزة واستفادت من الشرخ البسيط في صنع لوحة طبيعية مزينة بالأزهار، فجمال الاختلاف مع الآخر قوة هائلة علينا الاستفادة منها.

قياسا على الحياة الواقعية وتعاملاتنا مع البشر، لا يوجد شخص يشبهنا تماما ولا يوجد شخص بلا عيوب، ولكن علينا الاعتراف بوجود العيوب في الأهل، الأصدقاء، والجيران، زملاء العمل، الشريك، كل من حولنا ونحن قبله لدينا عيوب كثيرة، لكن الجمال في اختلافنا يعطي قوة للعلاقات وتمتينا أكبر، أن نحول هذه العيوب إلى مزايا يمكن الاستفادة منها وتحويلها إلى طاقة إيجابية تدفعنا إلى الإبداع والمزيد من العطاء، أن ندرك تماما كم سيكون الآخر مختلفا، وفي اختلافنا رحمة وقوة.

في رأيي، لو حطمت العجوز الإناء منذ البداية، مستمعة لنصائح أهل القرية الذين يرون من زاوية واحدة فقط، مقصورة عليهم، ما نبتت الأزهار، ولو أنهينا كل علاقة بسبب عيب في الطرف الآخر ما نجحت علاقة على وجه الأرض، ولا اكتملت معرفة، ولا تمت زيجة، الأمر كله يكمن في أن نتعايش مع شركاء الحياة بشكل ما، يلفه التسامح والقبول، طالما أن الأمر لا ينتقص من كرامتنا ولا يهين مشاعرنا.

جدتي الجميلة كانت تقول “خذ صاحبك على عيبه، فالكمال لله وحده”. جميع علاقتنا تحتاج إلى تحذير وتعمق، تحتاج إلى أن نبقي عليها بعيدا عن الخلافات الساذجة، فمن كان منا بلا عيوب فليقتل صاحبه.

نسير في دروب الحياة نقابل بشرا من مختلف الأشكال والأجناس والألوان والديانات، والعقائد والمعتقدات، لو توقفنا عند الاختلاف وصنعنا منه خلافا ما أثمرت العلاقات، ولكنّ قليلا من الملح يحيي الطعام، وكثيرا منه يفسده، ويقتل ذائقتنا بحلاوته، والاستمتاع به.

21