في الذكرى الثالثة لثورتهم.. التونسيون متشائلون

تونس- ترى غالبية التونسيين أن رحيل حكومة علي العريض، القيادي في حركة النهضة، هو أهم إنجاز تحقق، منذ سقوط نظام بن علي في 14 يناير 2011. وهذا الإنجاز جاء نتيجة نضالات مريرة قادها المواطنون والمعارضة والنشطاء، وهو رحيل سيفتح صفحة جديدة في تاريخ تونس المشدودة للمشروع الحداثي والرافضة لمشروع “الأسلمة” الذي يجاهد الإخوان من أجل فرضه على مجتمع يعدّ من أبرز المجتمعات العربية تمسكا بقيم اللبرالية والعلمانية.
رغم هذا التفاؤل، لا يتردد التونسيون، في نفس الوقت، في التعبير عن تشاؤمهم من مستقبل بلادهم التي تردت فيها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بشكل ينذر بالخطر، في ظل تراجع كبير لأداء مؤسسات الدولة التي تعرضت للنخر من قبل حركة النهضة منذ أن تولت الحكم إثر انتخابات 23 أكتوبر 2011.
بين تفاؤلهم بـ”ترحيل” حكم الإسلاميين الذي لم يجنوا منه سوى الفشل والإحباط وفقدان الثقة في السياسة والسياسيين وبين تشاؤمهم من مدى قدرة بلادهم على تحقيق تطلعاتهم إلى الحرية والكرامة والديمقراطية، يشقّ التونسيون طريق نضالاتهم ضد الاستبداد من أجل نحت ملامح صورة جديدة لبلادهم تكون في مستوى الثورة التي قادت الربيع العربي يوم 17 ديسمبر 2010 لما أقدم “صحاب العربة” بائع الخضر المتجول، محمد البوعزيزي، على إحراق نفسه في مدينة سيدي بوزيد، جنوب العاصمة تونس، لتندلع الشرارة الأولى لانتفاضة شعبية عارمة سرت كالنار في الهشيم في جميع المحافظات والمدن التونسية.
"الحداثية" في مواجهة الإسلاميين
تجمع المعارضة العلمانية ونشطاء المجتمع المدني وكذلك المواطن العادي على أن “التفاؤل مشروع" بعد أن قطع التونسيون أمام الإسلاميين سواء منهم حركة النهضة أو الجماعات السلفية مشروع “دولة دينية” تقوم على الاستبداد والديكتاتورية وفرض نمط مجتمعي متشدّد غريب عن المجتمع التونسي الذي يعتنق المذهب السني المالكي الأشعري المعتدل.
|
ويعتقد الرأي العام التونسي أن أهم خطر يتهدد المجتمع هو تنامي سطوة جماعات الإسلام السياسي، التي استفادت خلال السنوات الثلاث الماضية من حكم حركة النهضة، إذ تجاهلت طبيعة قيم المجتمع التونسي وأمعنت في تنفيذ أجندتها، شأنها في ذلك شأن جماعة الإخوان في مصر.
لذلك بدا رحيل حكم النهضة انتصارا، لا للمعارضة، فحسب، إنما انتصار للمشروع الحداثي التونسي الذي ناضلت من أجله أجيال من المصلحين منذ منتصف القرن التاسع عشر وتبلور مع المشروع الوطني الذي تقوده دولة الاستقلال منذ العام 1956.
وعلى الرغم من “تعنتها” فشلت النهضة في تقويض مؤسسات دولة مدنية قوية وفي تمزيق قيم المجتمع التعددي اللبرالي، كما فشلت في “نسف” مكاسب دولة الاستقلال وفي مقدمتها حرية المرأة التي تعتبر في تونس عنوان الحداثة.
وتعترف قيادات الحركة الإسلامية، التي تعوزها الخبرة والكفاءة، بأنها على امتداد سنوات حكمها “اصطدمت” بمؤسسات دولة مدنية علمانية قوية واستعصى عليها تنفيذ أجندتها، حتى أن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي اعترف في شريط فيديو مسرّب في لقاء مع شيوخ السلفية بأن “النهضة تحكم من فوق، أما إدارة دواليب الدولة وتسييرها فيتمان من خلال كوادر علمانية ذات تجربة ومن الصعب اجتثاثها”.
خلال الأشهر الأخيرة نجحت المعارضة المسنودة بحركات احتجاج واسعة وقوية في “إنهاك” النهضة التي فقدت الكثير من شعبيتها وبدت معزولة سياسيا وشعبيا الأمر الذي دفعها إلى القبول بخارطة الطريق التي يرعاها الاتحاد العام التونسي للشغل وثلاث منظمات من المجتمع المدني.
ويعلق التونسيون آمالا على الحكومة المرتقبة خاصة بعد رسائل “الطمأنة” التي تلقوها من مهدي جمعة والتي أكد فيها أن اختيار الفريق الحكومي سيتم على أساس “الاستقلالية والكفاءة والحياد” وذلك على الرغم من الضغوط التي تمارس عليه من قبل حركة النهضة والمعارضة من أجل القبول بمرشحيها. وبالتوازي مع المسار الحكومي يشعر الرأي العام التونسي بـ”الأمل” وهو يتابع تقدم المجلس التأسيسي في المصادقة على الدستور في ظل ضغط قوي تمارسه الكتل النيابية المعارضة على كتلة النهضة صاحبة الأغلبية.
الدستور.. الفصل
من أهم ما عزز آمال التونسيين هو المصادقة على هوية الدولة باعتبارها دولة مدنية لا دينية، وكذلك التنصيص على “حرية الضمير” و”تجريم التكفير والتحريض على العنف” و”المساواة بين المرأة والرجل”، وهي بنود أثارت حفيظة كتلة النهضة غير المتجانسة بل وقادت إلى خلافات داخل حركة النهضة نفسها.
|
ويقول المراقبون إن “النهضة تمر بأسوأ فترة منذ توليها الحكم” وإنه لم يبق لها سوى تحقيق رغبتها في إمضاء الدستور لـ”تسجل شيئا في تاريخها”، مضيفين أن ذلك لا يعني شيئا أمام رحيلها الذي فتح الأمل في أن تفتح البلاد صفحة جديدة من تاريخها الذي يضيق بأجندات الإسلام السياسي.
غير أن “التفاؤل المشروع" للتونسيين ينغصه “تشاؤم” لا يقل مشروعية في ظل حالة من الاحتقان الممزوجة بالإحباط نتيجة فشل السياسات التي قادتها حركة النهضة على امتداد السنوات الثلاث الماضية.
على الرغم من مرور ثلاث سنوات على ثورتهم يشعر التونسيون بأن أهداف ثورتهم لم يتحقق منها شيء يذكر أو يستحق التفاؤل، حتى أن جزءا من الرأي العام لا يخفي ندمه على أيام حكم الرئيس زين العابدين بن علي.
وأحد أهم عوامل تشاؤم التونسيين هو تراجع هيبة الدولة وأداء مؤسساتها وعجزها عن تقديم الخدمات للناس في ظل حالة انفلات خطيرة لم يعتدها المواطن الذي يعتقد أن الدولة التونسية من أقدم الدول في العام العربي بما أنها تأسست عام 1705 على يد الحسين بن علي ثم راكمت تجربتها لتنضج مع دولة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي عام 1956.
ولإحباط التونسيين ما يبرره على أرض الواقع ذلك أن الإسلاميين تعاملوا مع مؤسسات الدولة بمنطق الجماعة السرية ليس بمنطق الدولة، فنخروها من الداخل بعد أن زرعوا آلاف الكوادر غير الكفأة في المحافظات وفي المؤسسات العمومية وفي مراكز قرار حساسة. وتقول المعارضة إن مؤسسات الدولة المدنية تعرضت خلال فترة حكم النهضة لـ”عملية تدمير ونخر ممنهجة” في محاولة لفرض “مشروع الأسلمة وهو ما جعلها تتراجع عن دورها.
وما يعزز تشاؤم التونسيين، حسب المعارضة، حالة “الانفلات” العام بعد أن فقدت مؤسسات الدولة هيبتها لا فقط من خلال مشروع النهضة وإنما أيضا من خلال استهدافها من قبل الجماعات الإسلامية الجهادية التي تستهدف المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية.
لكن الأخطر من ذلك هو أن الرأي العام يخشى أن يتم تدمير مكاسب الدولة الوطنية تحت عنوان “الثورة” في ظل دعوات إلى “شيطنة” المشروع الوطني الذي حقق الكثير من المنجزات وفي مقدمتها حرية المرأة ومبدأ المواطنة وحد مقبول من التنمية على الرغم من كل النقائص.
من جانبه أكد أحمد إبراهيم، الأمين العام لحزب المسار الديمقراطي الإجتماعي، أن "أخطر ما أصاب البلاد بعد 3 سنوات هو أن الطبقة السياسية لم تعمل على توحيد الشعب، وإنما سعى البعض منها إلى تقسيمه على أسس واهية، وخاصة منها استعمال الدين في السياسة والتشجيع على الكراهية".
تركة ثقيلة
بالتوازي مع الجوانب السياسية يسود تشاؤم لدى التونسيين بشأن الأوضاع الاجتماعية التي تمثل تركة ثقيلة للحكومة المرتقبة ليس من السهل تقديم حلول لها في غضون سنة تقريبا وهي مدة حكومة جمعة.
على الرغم من (تعنتها) فشلت النهضة في تقويض مؤسسات دولة مدنية قوية وفي تمزيق قيم المجتمع التعددي الليبرالي
وقادت تلك التركة إلى حالة من الاحتقان ما انفكت تتزايد ضد حكام تونس الجدد جراء ارتفاع نسبة الفقر والبطالة في صفوف الشباب. وتبلغ نسبة الفقر 25 بالمئة وتصل إلى 40 في المئة في الجهات الداخلية المحرومة وفي الأحياء الشعبية التي تعد اليوم قنبلة موقوتة ومفرخة للجماعات الجهادية.
أما نسبة البطالة فإنها تعصف بأكثر من مليون عاطل من جملة عشرة ملايين هم سكان تونس. وخلال الأسبوع الماضي قاد العاطلون عن العمل والعمال والفلاحون “انتفاضة” احتجاجا على ضريبة جديدة تم توظيفها على سيارات نقل المنتجات الزراعية، لكن الانتفاضة عكست عمق حالة الاحتقان التي يعيشها المجتمع التونسي ودرجة الغضب التي تجتاح فئات عريضة منه على حكومة فشلت في توفير مقومات العيش الكريم.
وقال عصام الشابي الناطق باسم الحزب الجمهوري: "البلاد اليوم تشهد احتجاجات شبيهة بتلك التي رافقت الثورة تطالب بحقها في التنمية والشغل والكرامة. نحن اليوم نحتفل بهذه الذكرى في الشوارع وربما هذا هو المكسب الوحيد من الثورة ".
وفي ظل غياب مخططات تنموية واضحة وناجعة تتعاطى مع المشاكل الحقيقية للتونسيين يبقى الوضع في تونس مرجحا لمزيد من الاحتقان وقد تضطر حكومة مهدي جمعة إلى الاكتفاء بـ”تصريف” الأعمال و”ترحيل أهم الملفات إلى الحكومة التي ستنبثق عن الانتخابات القادمة”.
ومن أخطر الملفات التي سيضطر جمعة إلى “ترحيلها” والتعامل معها بحذر ملف الإسلام السياسي الذي يؤرق مجتمعا كثيرا ما قدم نفسه على أنه مثالا للتعايش بين الإسلام المعتدل والعلمانية اللبرالية، إذ توصلت الجماعات الإسلامية على اختلاف أنواعهـــا إلى اختراق نسيج مؤسسات الدولة. ولا يخفي التونسيون اليوم خوفهم من أن تبطش تلك الجماعات بمكاسب الدولة الوطنية وتزج بالبلاد في فوضى سياسية واجتماعية بل ربما حرب أهلية، خاصة وأنها تمكنت من إدخال كميات كبيرة من الأسلحة بعد تسلل عناصر القاعدة واستقواء جماعة أنصار الشريعة.
ويرفض الرأي العام تقسيم المجتمع إلى علمانيين وإسلاميين مؤكدا على أن هذا التقسيم هو بداية لحرب أهلية أو على الأقل تشريع لتصفية المعارضة العلمانية.
على الرغم من حالة التمزق التي يعيشها التونسيون بين “التفاؤل” و”التشاؤم” فهم يعتقدون أن بلادهم تمتلك رصيدا حضاريا وأرضية سياسية واجتماعية يجعلانها ريادية مقارنة بعديد البلدان العربية الأخرى، وهم يرون أن طبيعة الشخصية التونسية المتفتحة وتركيبة المجتمع وقيم الثقافة المتسامحة تمثل روافد لانتصار مشروع الحداثة على مشروع الإسلام السياسي.