ممرضون في العراق يتطاولون على اختصاص الأطباء

المرض يتحالف مع القوى المعادية للشعب العراقي الذي يحلم منذ زمن طويل بحياة هادئة، حتى أنه صار يهددهم في حياتهم أمام الغلاء المشط للدواء وتكلفة العيادة والطبيب المختص. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تطاول الممرضون في محلات التضميد على اختصاصات لا يعرفون منها شيئا، أمام غياب السلطة الحالمة بتحقيق مصالح الأقلية من المسؤولين على حساب شعب نهشه الفقر والمرض دون أمل بالحق في الحياة.
الاثنين 2017/11/13
هل درس الممرض ما درسه الطبيب

بغداد - انهيار المؤسسات الصحية في العراق، ومغادرة معظم الكفاءات الطبية للبلاد بسبب الخوف من الوضع الأمني غير المستقر جعلا الناس وخصوصا الفقراء يلجأون إلى المضمدين لغرض البحث عن علاج لأمراضهم وأمراض أطفالهم.

وتشير آخر الإحصائيات لعدد الأطبّاء، الذين تم اغتيالهم منذ العام 2003، إلى أنه بلغ 2050 طبيبا متخصّصا، وأنّ 80 بالمئة من الكفاءات الطبية العراقية غادرت البلاد بهجرة إجبارية. وكذلك فقد انخفضت مخصّصات ميزانية وزارة الصحة العراقية إلى 3 بالمئة من الميزانية العامة للدولة.

وبسبب نقص الكادر الطبي، وغلاء فاتورة الفحص في عيادات الأطباء يقوم الممرضون في بغداد وباقي المحافظات العراقية بإجراء عمليات جراحية صغرى بالرغم من محدودية معارفهم وخبراتهم، وخلوّ عياداتهم من أجهزة الكشف أو ما تتطلبه هذه العمليات من نظافة وإضاءة كافية.

وتبلغ فاتورة الكشف الطبي لدى بعض الأطباء المتخصّصين في بغداد 75 ألف دينار (الدولار يساوي 1250 دينارا) وهناك من تكون فاتورته أقل من هذا المبلغ، وتتراوح بين 60 و25 ألف دينار.

ويعتبر هذا المبلغ إضافة إلى ما يتطلبه الدواء من مبالغ تفوق هذا المبلغ بعدة مرات، وأغلب الأطباء يطالبون المريض بالذهاب إلى المختبرات لإجراء تحليلات طبية تتطلب الكشف الطبي بالأشعة والسونار وصور الأيكو.

ختان غير ناجح

ويعتبر الممرضون والممرضات في العراق أن من اختصاصهم إجراء عملية الختان للأطفال، والولادات، ومعالجة الحروق، وعمليات إزالة المسامير اللحمية، ومعالجة الأكزما، وعمليات تجميلية وإزالة الزوائد الأنفية.

ويستخدم بعض الممرضين المصباح اليدوي عند انقطاع التيار الكهربائي، وفي الكثير من الأحيان يخطئ الممرض غير الكفء بتحديد المرض والعلاج مما يتسبب في مآس للكثير من العائلات العراقية الفقيرة.

هذه الأخطاء تعود إلى أن محلات التضميد غير مجهزة تجهيزا كافيا إضافة إلى قلة خبرة العاملين الذين بدأوا العمل قبل فترة قصيرة، وذلك لشحّ مصادر الرزق، وحاجة الناس إلى من يعوّض المؤسسات الطبية والأطباء الأكفاء.

لا يمكن تعويض دور الطبيب مهما بلغ الممرض من الحذق والمهارة في أداء عمله

يحكي موسى ذياب (30 سنة) لـ”العرب” عمّا حلّ بطفله ياسين 8 سنوات جراء عملية ختان غير ناجحة أجراها مضمّد غير كفء قائلا، “منذ شهرين ونحن نعالج الطفل بمختلف المضادات الحيوية لمعالجة جرحه، والطفل يعاني معاناة شديدة عند التبول. وحين عرضناه على أبي حيدر، مضمّد صحي آخر، اتضح أنّ عملية الختان غير ناجحة، وعلينا بعد أن يطيب جرحه أن نجري له عملية ختان جديدة”.

ويضيف ذياب، “والآن طفلي يتعذب والأسوأ أن المضمّدين وصفوا له حقنا طبية عالية التركيز، إضافة إلى مضاد حيوي يأخذه عن طريق الفم، مما تسبب للطفل في حساسية دائمة من البنسلين. فلذلك صعب علينا علاج جرحه، وصار الطفل يعيش عذابا مستمرا، ندمنا لأننا أجرينا الختان في العراق ولو كنا بعثناه إلى دولة أخرى لتمّ ختانه بشكل أفضل ومن دون مضاعفات”.

الفقراء في العراق

ويروي الحاج حسن (60 سنة) عن زوجته التي تعاني من الربو منذ سنوات، وتكاد تموت عند قيام كل عاصفة ترابية تحدث ببغداد. كان يصطحبها إلى المضمدين للحصول على بخاخ طبي أو وضعها تحت كمامة الأوكسجين، التي لا تتوفر إلا لدى مضمدين قليلين.

يقول الحاج، “الشكوى لله، لا نملك المال اللازم لتحصل أم كريم على العناية الطبية في المستشفيات الخاصة. ومستشفى الصدر الحكومي محدود الإمكانيات ويزدحم فيه المرضى الذين لا يحصلون على الدواء المجاني بسبب التقشف الحكومي، فعليهم أن يشتروه من الصيدليات. وإذا حصلوا على جزء من العلاج، فذلك بالواسطة أو بالرشوة.. الفقراء في العراق لهم الله وبعده المضمّدون”.

أجهزة بسيطة لا تكفي لتشخيص المرض

ويقول الطبيب عدنان رشيد لـ”العرب”، “تأسست وزارة الصحة عام 1920 وهذا يعني أن وزارة الصحة العراقية يقترب عمرها من مئة سنة، لكن للأسف لم تؤسس طوال هذه الفترة استراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع الجانب الصحي للشعب. فعدد الأطباء لا يغطي الحاجة الفعلية لعدد سكان البلاد، وقد تضاعفت المشكلة جراء الحالة الأمنية السيئة التي اضطرت الكثيرين من الاختصاصيين المهرة إلى الهجرة للخارج البلاد. والآن لا يوجد في بغداد سوى ثلاثة أطباء تخدير، والأمراض انتشرت بشكل كبير بسبب التلوث البيئي وبما طرأ على الماء والهواء من عوامل التلوث الكثيرة، ومن بينها تسبب مياه الصرف الصحي في تلويث المزروعات، وكذلك تضرر الأسماك والطيور والأغنام والأبقار. وانتشرت بسبب ذلك الإصابات بمرض الثيلاسيميا والالتهاب السحائي، وحمى التيفويد، وتحصد أمراض كالإسهال، والتهابات الجهاز التنفسي الحادة والملاريا والحصبة وسوء التغذية سنويا الآلاف من الضحايا وخصوصا الأطفال”.

ويضيف رشيد، “الوضع كارثي حقا، فقد التجأ الناس إلى وصفات العلاج من الصيادلة دون فحص طبي، وإلى الاعتماد على الممرض والموظف الصحي كبديل للطبيب الأخصائي، وكذلك اتجه قسم كبير من المرضى إلى طب الأعشاب والطب الشعبي وإلى الدجالين للحصول على دواء شاف لأمراضهم، فهذا يؤكد على الانهيار الصحي العام في العراق”.

السقوط من السلم

حسن طالب موظف حكومي (56 سنة) قابلناه وهو يسند جسده إلى عكاز، وعندما كشف عن ساقه اليمنى لتلقي العلاج كان منظر ساقه مؤلما، فقد انتشرت الفقاعات السوداء عليه، وبدا أنه يعاني من التهاب شديد.

يحكي طالب عن مأساته مع الممرضين، “حدثت بضعة خدوش في ساقي بسبب سقوطي من السُّلّم أثناء العمل، وشاء حظي العاثر أن أراجع مضمّدا صحيا في منطقة الأورفلي، لكي يضمّد لي الجروح، فوضع عليها لصقة قال إنَّها ستجفف الجروح وتشفيها بسرعة، ولكن بعد يومين بدأت أشعر بآلام مبرحة في موضع اللصقة، فأسرعت عائدا إليه ليدبر حالي فأزال اللصقة ومعها جزءا كبيرا من الجلد. وبدأت معاناتي بتحوّل تلك الخدوش إلى نوع من الأكزما المؤلمة، التي منعت النوم عن عيني، ولم أستطع بعدها المشي إلّا بالاستعانة عكاز”.

قسم كبير من المرضى يتجهون إلى الطب الشعبي وإلى الدجالين للحصول على دواء شاف لأمراضهم وهو يؤكد على الانهيار الصحي العام في العراق

ويضيف حسن، “حين قصدت مضمّدا آخر أخبرني أنّ تلك اللصقة التي استعملها المضمد الأول كانت منتهية الصلاحية، ولكن لأنّ ذلك المضمّد من الممتهنين لمهنة التمريض قبل فترة قصيرة، فهو لم يدقق في ما يستخدمه لمعالجة الناس من أدوية ولصقات. وسوق الدواء مملوءة بشتى أنواع الأدوية المنتهية الصلاحية أو المقلدة. ولا توجد في العراق رقابة حقيقية على سوق الدواء كما أخبرني.. الآن وضع ساقي أفضل مع أبي حيدر -المضمد- الذي التجأت إليه حاليا، فقد جفت الجروح، وبدأ الألم يخف”.

ويؤكد المضمد أبوحيدر ذو الخبرة الطويلة، “أنّ الساق كادت أن تصاب بالكنكرينا، لولا فضل الله، وتغييري لطريقة العلاج للأكزما برش المضادات الحيوية على الجروح، وتعريضها بشكل مستمر لأشعة الشمس، والهواء. وخلال شهر ستختفي الأكزما تماما، ولكن ستبقى آثار ندوب على الساق”.

ضحك طالب وقال “ندوب أحسن بكثير من أن تُبتر ساقي. الحمد لله على التحسن، الذي طرأ على جروح ساقي”.

العلاج لدى المضمد الصحي لا يكلف كثيرا، فغرز إبرة في العضل بألف دينار (أقل من دولار) وقياس الضغط بألف دينار وتضميد الجروح بألفي دينار، والختان بعشرين ألف دينار. والولادة بـ250 ألف دينار عند ولادة امرأة و350 ألف عند ولادة ذكر، والعمليات الصغرى تتراوح بين 200 و400 ألف دينار.. وعموما أسعار التداوي لدى المضمدين أقل بعشر مرات من طلب العلاج لدى الطبيب الأخصائي.

اختناق طفل

يقول الفيزيائي محمود جاسم، يعمل في مختبر للتحليلات الطبية ببغداد، “التشخيص في المختبر ضرورة، وهذا ما لا يستطيعه المضمد، فهو يعمل على الاحتمالات، ولا يعمل مستندا على وقائع تحليلية، أما عند التشخيص المبكر للإسهال لدى طفل، فيمكنه أن يعطي المريض العلاج الضروري، والتعويض له بكمية الأملاح المفقودة من خلال المواد المغذية، ويمكن إضافة الدواء المناسب له، كما يمكن إعطاء العلاجات المركبة لمرضى الملاريا”.

محلات التضميد بلا رقابة

ويقول جليل خليل عضو نقابة التمريض العراقية، “إن عدد الممرضين المسجلين رسميا بحدود 11 ألف ممرض و7 آلاف ممرضة، وقابلة قانونية من المسجلين في النقابة. يخضعون لقانون مزاولة مهنتي التمريض والتوليد رقم 96 لسنة 2012 وفقرات القانون واضحة في حال تسبب الممرض أو القابلة في حالة وفاة أو إصابة بعاهة مستديمة، حيث أنه عند وصول أي بلاغ من مواطن أو شكوى ضد أحد الممرضين أو القابلات يتم تشكيل لجنة لمعاينة الإصابة، ومعرفة ظروفها، وملابساتها للحكم إن كان الممرض مقصرا أو متجاوزا لاختصاصه، وقيامه بمهام الطبيب أو مداواة خاطئة لمريض ما”.

ويضيف خليل، “هناك حالات يتجاوز فيها الممرض دوره ولكن في الحالات الحرجة التي تتطلب تدخلا سريعا، وإلا فإن تطور الحالة تؤدي إلى وفاة المريض، كاختناق طفل بجسم صلب، مما يدعو الممرض إلى عمل فتحة في القصبة الهوائية لتزويد الطفل بالهواء عن طريق أنبوب خارجي إلى حين وصوله إلى المستشفى لإنقاذ حياته. وهناك حالات من هذا النوع حصلت وتم إنقاذ عدة أطفال من موت محقق”.

يقول نوري بهجت، طبيب عام، “لا يمكن تعويض دور الطبيب مهما بلغ الممرض من الحذق والمهارة في أداء عمله، لأن للطبيب رؤية مستقبلية عما سيحصل للمريض وعن الآثار الجانبية لأي دواء يصفه للمريض. كما أنّه يضع في اعتباره أن الجراثيم يمكن أن تتكيف مع العلاج عند المبالغة في استعمال المضادات الحيوية المركزة. لذلك فهو يعمد إلى التدرج بإعطاء المضاد الحيوي للمريض، وفي بعض الأحيان لا يصف له إلا بعض الفيتامينات لغرض أن يعتمد المريض على جهازه المناعي في الدفاع ضد الجراثيم. ولا يصف له المضاد إلا في حالات الاضطرار”.

وتقول أحلام يونس (45 سنة) قابلة قانونية في بغداد، “إن الكثير من حالات عسر الولادة تعاملت معها بصبر واتبعت كل الوسائل الطبية الضرورية لتيسير الولادة، والحمد لله تكللت جهودي بالنجاح مع الكثيرات وفي الحالات الميئوس منها كضعف الحالة الصحية للأم أو للطفل، أطلب من أهلها نقلها إلى أقرب مستشفى للولادة في بغداد. والنساء الحوامل يخفن من الذهاب إلى المستشفيات لأنّ الطبيبة تحيلهن لإجراء عملية ولادة قيصرية دون انتظار. والعملية القيصرية تكلف مبلغا ماليا يتراوح بين المليون والمليون ونصف دينار، حسب ترتيب العملية القيصرية: أولى أو ثانية أو ثالثة، فلكل حالة سعرها الخاص”.

وبالرغم من أنّ الممرضين والممرضات إطار مهمّ في مجال عمل الأطباء والجهات الصحية والمختبرات التحليلية لمساعدة المرضى والحالات الاضطرارية، لكنهم يأخذون دورا أكبر من إمكانياتهم الفنية، وتجهيزات عياداتهم، وذلك لا يحدث إلا في العراق، إذ يبدو واضحاً من خلال امتلاء عيادات الممرضين بالمرضى هروبا من غلاء أجور الأطباء.

20