حتى لا يكرر العرب أخطاءهم في العراق

إن كان هناك من مستفيد حقيقي من الصراعات والحروب المشتعلة في الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة، فهم الأكراد. يتجلى الفوز الرئيسي لهذه المجموعة التي ظل صوتها مكبوتا لوقت طويل في تحولها إلى لاعب ميداني مهم في ما يجري بالمنطقة، وأيضا “انتقامها” ممن كبت صوتها وتهديد من عارض مصالحها. استعانة واشنطن بأكراد سوريا كان أحد مظاهر تطور الوضع الكردي، أما استفتاء الانفصال الذي أعلن أكراد العراق عن إجرائه في 25 سبتمبر المقبل، فيعد الفوز الأكبر، حتى وإن لم يتحقق الانفصال، فالغاية ليست الاستقلال التام عن الدولة المركزية، الضعيفة، بقدر ما هو ضجيج لضمان حصة معتبرة أثناء تقسيم الكعكة، وهو الأمر الذي يجب أن يعيه جيدا العرب من الذين اختاروا تأييد استفتاء الأكراد كجزء من استراتيجية مواجهة إيران، وقرص تركيا.
الخميس 2017/09/07
تحركات البارزاني تشي بأنه ليس شخصا اعتباطيا

انفصال إقليم عن أي دولة هو مرحلة أولى. تستطيع أن تسميها مقدمة للحدث الرئيسي المتمثل في تبعات الانفصال وكلفته، وهي الحرب. في كردستان العراق ثمة هرولة نحو هذا السيناريو عن قصد من أجل الإسراع في اقتناص حصة الإقليم، وسط زحام التغيرات الجذرية التي تحدث في المنطقة.

مسعود البارزاني لا يملك إلا الدعوة إلى إجراء الاستفتاء. هذا الاستفتاء هو رصاصته الأخيرة قبل بدء مرحلة ما بعد داعش في المنطقة. إن أصابت سيصبح الاستقلال مسألة وقت، لكنها ستلطخ القضية كلها بالدم. وإن لم تصب، فستحدث دويا يمنح الإقليم الأسبقية في علاقته العصبية مع بغداد.

الأكراد واقعون بين تبعات رفض الإيرانيين والأتراك للاستفتاء. هذا طبيعي ومتوقع ومدروس في أربيل وفي واشنطن أيضا. لكن ما هو تفسير الموقف العربي؟

ثمة محاولة عربية لإزعاج تركيا عبر ورقة الاستفتاء. الاستثمار في التماهي مع وجهة نظر البارزاني، تتماشى مع رغبة حزب العمال الكردستاني (المصنف إرهابيا في تركيا) بالاحتماء بمظلة الدولة الجديدة. مسألة قيام دولة كردية في شمال العراق هي إحدى المقدمات البديهية لتمدد عقلية الاستقلال إلى ما وراء حدود تركيا وإيران.

دعم وجهة نظر البارزاني في عواصم عربية عدة لها وجاهتها، لكن على المدى المنظور. الأمر سيزعج تركيا، وسيحول تركيز عملية صناعة القرار في أنقرة عن الأزمة الخليجية مع قطر. لكن المشكلة ستكون في التناقض مع الرؤية الأميركية الجديدة للمنطقة.

الإدارة الأميركية الحالية تعمل بطريقة معكوسة لرؤية إدارة باراك أوباما. النظرة الاستراتيجية، التي يتبناها الجنرالات المسيطرون على صنع القرار في البيت الأبيض، تحاول ترميم ما تبقى من اتفاقية “سايكس بيكو". واشنطن لم تعد منشغلة بشرق أوسط جديد ولا قديم. هناك مهمتان أتت من أجلهما القوات الأميركية إلى المنطقة، وعليها إنجازهما: إنهاء حقبتي داعش والنفوذ الإيراني معا.

هذه الرؤية المزدوجة تتطلب الحفاظ على الحدود الجغرافية القائمة بين بلدان المنطقة كما هي. تفتيت كيانات المشرق العربي يتسق مع أبعاد الاستثمار الإيراني في المنطقة، القائم على بناء جزر طائفية وسط المحيط السني غير المستقر.

رؤية بعض الدول العربية لاستفتاء الأكراد تتعارض مع المقاربة الأميركية، وتكرر أخطاء الماضي بحق العراق. الرئيس جمال عبدالناصر كان أول من وقع في هذا الخطأ عندما خصص إذاعة ناطقة باسم الأكراد في ذروة مواجهتهم مع “حلف بغداد” عام 1957 نكاية في رئيس الوزراء الراحل نوري السعيد، ومن بعده الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم. إغراق العراق بالبندقية من نوع "بورسعيد"، ودعم التمرد الكردي سياسيا لم يشكلا عائقا أمام عبدالناصر للتخلي عن الأكراد لاحقا.

الأمر الآن لا يشبه ما حدث وقتها. ثمة فوارق كبيرة في الظروف وأبعاد القضية ورؤية الغرب أيضا. علاقة الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني وعبدالناصر ليس لها مرادف بين مسعود البارزاني وأي من الزعماء العرب الآن. لكن السلوك العربي تجاه قضية الاستقلال، حتى وإن ظل منحصرا في بعده الإعلامي، لا يأخذ في الاعتبار ما سيحدث في اليوم التالي للاستفتاء.

إيحاء بعض الدول العربية بتأييد استفتاء الأكراد هو رهان خاسر، ببساطة لأن هذا الاستفتاء قد لا يحدث مطلقا

دولة كردية مستقلة تعني اشتعال حرب أهلية بين الشمال والجنوب. العراق سيكون قد خرج للتو من حرب طائفية، كي يدخل هذه المرة حربا على أساس عرقي.

المشكلة الثانية أن هذه الدولة الناشئة هي جسر لتحالف إيراني- تركي. الإيرانيون، ومعهم الأتراك، مصابون بحساسية ضد الأكراد منذ هروب الملا مصطفى البارزاني من إيران عام 1946. إنشاء جمهورية “ماهاباد” في شمال إيران لقن طهران وأنقرة درسا خلاصته أن وجودهما مرهون بعدم السماح للأكراد باقتناص كيان مستقل.أي محاولة للاستقلال تعني مذبحة في كردستان.

أي شخص ذو رصيد أخلاقي محترم لن يتمكن من المناورة عند الحديث عن مظلومية الإقليم تاريخيا. منذ ما قبل ثورة 1958 في العراق، يدفع الأكراد أثمان العبث المتكرر واللانهائي في بغداد.

العراقيون طوال تاريخهم لم يتمكنوا من فهم الشخصية الكردية على حقيقتها، ولم يقدموا لها مغريات تدفعها للذوبان في شخصية عراقية جامعة. لا داعي هنا للحديث عن القمع وحملات التطهير والمذابح التي ارتكبها حكام العراق الواحد تلو الآخر بحق الأكراد. كل هذا معروف.

لكن هل هذا هو التوقيت الصحيح للاستقلال؟ هل البارزاني ورجال حزبه مستعدون لدفع كلفة مغامرة كهذه الآن؟ وعن ماذا سينفصل إقليم كردستان؟ هل ثمة دولة حقيقية قائمة فعلا في بغداد؟ وماذا لو توسع حديث الاستقلال ليشمل خانقين ومدنا أخرى في محافظة ديالى المتاخمة لبغداد؟

في أوقات الفوضى تكون الأمم في حالة هياج سياسي وعسكري وثقافي وحتى غرائزي. الأمر يشبه استقلال جنوب السودان، لكن بطريقة معكوسة.

في السودان بدأت الحرب أولا وأخذت وقتها، إلى أن أنهكت جميع الأطراف، بعدها اضطرتهم إلى الجلوس على الطاولة وتحديد موعد توافقي لإجراء استفتاء على الاستقلال.

الأمر لن يكون هكذا في حالة كردستان العراق. هناك الاستفتاء سيقود إلى حمل السلاح، وليس العكس.

تحركات البارزاني تشي بأنه ليس شخصا اعتباطيا كي يلقي بالحلم القومي للأكراد في هذا السيناريو. إلى الآن ليس ثمة إشارة واحدة على أن البارزاني جاد في المضي قدما في انتزاع استقلال حقيقي. الأمر كله يدور حول إحداث ضجيج لضمان حصة معتبرة أثناء تقسيم الكعكة، التي يبدو أنها صارت جاهزة للتقديم.

خذ مثلا قضية ضم محافظة كركوك للاستفتاء. البارزاني يعلم أن كركوك هي المطب الذي سيقلب العملية كلها رأسا على عقب. لا أحد يضع عراقيل أمامه إلا إذا كان يرغب في الرجوع من حيث أتى.

كل ذلك في كفة، والرفض الأميركي في كفة أخرى. الأميركيون هم أكثر من ينجح في لعبة التدجين بالمال والسلاح. هذه السياسة تمكنت من التحكم في القرار الكردي منذ أن بدأت واشنطن في إرسال مئات الملايين من الدولارات من المساعدات العسكرية لقوات البيشمركة عام 2014. تهديد البنتاغون بوقف المساعدات العسكرية للإقليم ليس أمرا هينا يمكن لأربيل أن تتجاهله.

الأزمة المالية التي تمر بها، إلى جانب انخفاض أسعار النفط، لم يتركا بدائل أمام البارزاني يمكن الاعتماد عليها. كلفة العناد مع الأميركيين ستكون باهظة لا محالة.

استقلال كردستان يعني بالنسبة إلى واشنطن فتح ثغرات في استراتيجيتها، والسماح لإيران وداعش معا بالنفاذ من خلالها. أي صراع مستقبلي بين بغداد وأربيل سيعيد الخطة الأميركية في المنطقة إلى نقطة الصفر.

إيحاء بعض الدول العربية بتأييد استفتاء الأكراد هو رهان خاسر، ببساطة لأن هذا الاستفتاء قد لا يحدث مطلقا. بناء استراتيجية إقليمية عربية حول تحركات تركيا فقط، أو تحركات إيران، هو تصرف من يطلق النار على قدميه. على العرب التوقف عن تكرار أخطاء الماضي في حق العراق.

كاتب مصري

7