متى يكتب العراقيون روايتهم؟
أكاد أجزم أن ما من شعب تعرض للويلات والمآسي في التاريخ مثل شعب العراق، لا سيما في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان للعراق مشهد في مخططها، ثم تعاقبت عليه الأحداث تترى.
إذ ذاك تميز عطاؤه الإنساني، كونه يقف على حصيلة سبع حضارات إنسانية كبرى في تأريخه، ليكون واحدا من مراكز العالم القديم الأساسية. ولعمق الوجع العراقي طيلة المئة عام الأخيرة من تاريخه فإنه عبّر بموروثه الشعري أصدق تعبير عما يخالج روح الشعب ومأسيه، وبرز شعراء كبار كالرصافي والسياب، لكنه رغم ذلك لم يُنتج روائيين كبارا، يشاد بهم عالميا كما أشيد بالمصري نجيب محفوظ أو الكولمبي ماركيز، اللذين توجت تجربتهما بنوبل.
السؤال المحير لماذا ظل العراق شاعرا فذا ولم يكن يوما روائيا فذا؟ على الرغم من الحكايات التي لا تنتهي التي مرت عليه.
أسأل عن ذلك من حولي من النقاد والمؤرخين لتاريخ الأدب العراقي وأتلقى تحليلات شتى، أهمها أن العراقيين يقفون فوق بركان من الأحداث الكبرى التي مازالت تعصف بهم كل حين، تجعلهم يهرولون في مارثون تعاستهم وشقائهم قبل أن يجلسوا على مكاتب مستقرة ليعبروا عن قدراتهم في الأدب عموما، ليلجأوا إلى الاستثناء الشعري الأسرع في كثافته التعبيرية، وثمة من يرى أن الرواية فن يحتاج إلى الصبر الطويل، وهم نافدو الصبر، وثمة من لا يتوانى عن القول إن لكل أدب سمته والعراقيون شعراء بامتياز تأريخهم، مصابون بعقدة المتنبي!
وأعود لأسأل عن كل هذه وتلك من الأحداث الجسام؛ لماذا لا تكتب رواية بمستوى الوجع العراقي النبيل، نعم هنالك محاولات مهمة قام بها محمد خضير وعبدالخالق الركابي، وسواهما من الأدباء لكنها لم تخرج بعمل ملحمي مثل “الحرب والسلام” أو “أولاد حارتنا”، فقد ظلت بعض أعمالهم الأدبية رائعة اللغة والتناول، لكنها ليست ملحمية تتوافق مع الأحداث الجسام التي عاشها العراقيون و”ضيمهم” الخالد.
وظل بعض الأدباء الشباب يلهثون وراء ماركيز وعبدالرحمن منيف، كي يؤطروا تلك الدراما العراقية المليئة بالحكايات والأحزان، بل الفواجع والكوارث التي خلفتها الحروب والقصف المتواصل للشخصية العراقية، التي عانت طويلا لكن الشارع كتب روايته في الصبر والمجالدة وتحمل الحصار، ببطولة يعجز القالب الأدبي عن أن يصل إلى ملحميتها الأسطورية.
فالشعر ما عاد زينة يفاخر به الأدباء في المديح والهجاء، كما كان أيام الملاحم-الفواجع على الأرض أمام واقع بات كله فاجعة لا يؤطره سوى فن الرواية.