الخطاب الديني الموازي يضعف المؤسسات الدينية ويقوي التطرف

الحكومات العربية في غالبيتها، تجد صعوبات في السيطرة على استفحال التطرف المغذي للإرهاب، وذلك للضعف الذي ينخر مؤسساتها المعنية بالشأن الديني بفعل ركود الخطاب السياسي وترهّله من جهة، ولجوء الجماعات الإسلامية إلى استخدام أساليب أكثر انتشارا وتأثيرا في المجتمع من جهة ثانية، ويبقى الحل هو في استعادة الدولة زمام الأمور كي لا تحدث شغورا يستغله التطرف نحو افتكاك المنابر.
الأربعاء 2017/08/30
التطرف ينذر بأن يحتل مكان المؤسسات الدينية إذا استمر الخطاب السياسي على جموده

تجد المؤسسات الرسمية ذات الطابع الديني، أو تلك المكلفة بمهام ووظائف تتعلق بالدين في كل الدول العربية، نفسها اليوم عاجزة عن حماية المجتمعات من تصورات جديدة، تَسْحب الرأي العام إلى عوالم مليئة بالرفض لليقين، وتُسَفَّه الثوابت، وتَطْرح جديدا هو أقرب إلى الشعوذة والفلكلور، وكل ذلك يستند في انتشاره إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وما وَفَّرته الشبكة العنكبوتية من فرصة للانتشار على نطاق واسع، لدرجة أن المؤسسات الأمنية في الدول العربية، لم تعد قادرة على توقّع حدوث بعض الاضطرابات الاجتماعية على خلفية دينية، فما بالك بالحماية منها؟

والواقع أن تلك المؤسسات الرسمية، مثل وزارات الشؤون الإسلامية والأوقاف، والمجالس الدينية المختلفة، وحتى الجامعات، لا تحمل وحدها أوزار ما يحدث، وذلك للأسباب التالية.

السبب الأول كونها ليست منفصلة عن السياسة العامة للدول أو على برامج الحكومات.

أما السبب الثاني فيقوم على أنها لا تمثل أولوية بالنسبة إلى الأنظمة بحيث يُعوّل عليها لتثبيت أركان المجتمع وتقوية الجبهة الداخلية.

ثالثا أنه لا توجد حدود فاصلة بين دين الدولـة ودين الشعب، حيث يقدمان دائما على أنهما أمرا وحدا، وفعلا هما كذلك من الناحية العقائدية، ولكن يختلفان لجهة التطبيق، فمثلا يحق للفرد أن يتّخذ أي مذهب شرط ألا يجاهر برفض الاختيار المذهبي العام للدولة، وهذه مسألة ليست اختيارا دينيا فقط ومرتبطـة بطبيعـة السلطـة والنظـام، وإنما هي أيضا اختيار مدني وديمقراطي.

ولأنه يتم التعامل مع تلك المؤسسات ضمن سياسات تفصل الدنيوي عن الديني في مجتمعات مؤمنة، وتعتبر بعضها الدين هوية، فإن نتائج ذلك هي ما نعيشه اليوم، فقد أفرزت المجتمعات العربية قبل الانتفاضات الأخيرة ـ الناجحة منها والفاشلة ــ وأثناءها وبعدها، أربع قوى فاعلة ومدمّرة ومصدّرة لأزمات مستفحلة، تختلف في الأساليب غير أنها تحقق نفس الأهداف، وإن كانت تختلف في حدة أفعالها.

وتتمثل الأولى في الجماعات الإرهابية بكل أنواعها، ما قبل تنظيم القاعدة وما بعد تنظيم داعش، والثانية في جماعات الإسلام السياسي، سواء ارتدت عباءة الإخوان أو عباءات التصنيف المحلي لجهة ربط الإسلام بخصوصيتها الوطنية، والثالثة حركات مذهبية سنية وشيعية وصوفية وقد انتشرت مؤخرا وعلى نطاق واسع، أما القوة الرابعة فتظهر في تحالف تنظيمات وأحزاب مدنية، علمانية بوجه خاص، مع تيار الإسلام الصوفي للقضاء على جماعات الإسلام الحركي، العنيفة منها والمسالمة أو على الأقل تعطيل مشاريعها وإضعاف وجودها.

ضرورة التخلص من الوهم القائل أن الحرب على تيارات الإسلام السياسي، تبدأ من دعم جماعات دينية أخرى أو تطويق الدين

إن ظهور تلك القوى في وقت واحد أو عبر أزمنة مختلفة، يعني أمرين، الأمر الأول: أن هناك جدلا واسعا حول الإسلام بين الدولة ـ وعلينا هنا أن نلاحظ ضعف مؤسساتها الرسمية المكلّفة بمهمة حماية الدين والمجتمع وتصويب العلاقة بينهما من جهة وبينهما وبين السلطة السياسية من جهة ثانية ـ والأفراد والتنظيمات والأحزاب، وهذا يتطلَّب إعادة تنظيم العلاقة من أجل تحويل الجدل إلى مشاريع وطنيّة تؤسس لشرعيّة دستورية يخضع إليها الحكام، خاصة في الشق المتعلق بالدين وتطبيقاته العملية، وتقلل من اجتهاداتهم السياسية التي غالبا ما تنتهي إلى عدم تقديم حلول، وإغراق المجتمعات العربية في المزيد من الأزمات، وهو ما نراه في الكثير من الدعوات الآنية الداعية إلى تجديد الخطاب الديني، مع أن المفروض هو الدعوة إلى تجديد الخطاب السياسي، وبتجديد هذا الأخير سَتتجدّد بالضرورة بقيّة الخطابات.

الأمر الثاني: عجز الأساليب القديمة التي تتبعـها الدول العربية عن طرح الدين من خلال المؤسسات الرسمية، خاصة بعد حدوث تداخل مع الآخر في محاربة الإرهاب على أكثر من صعيد، فالشعور بالدونية وبغياب السيادة الوطنية وبتحالف المسلمين مع غيرهم، سواء أكانوا حكومات أم جماعات على أكثر من صعيد، كل ذلك دفع فئات كثيرة إلى البحث عن اختيارات دينية أخرى.

وقد بـدا واضحا لتلك الفئـات غياب حمايـة الدولـة للأفراد من أعداء الداخل والخارج، والمتابع لوسائل التواصل الاجتماعي يرى أن هناك خطابا دينيا يسود المنطقة ومرحّب به من الحكومات، وذلك لسببين: أولا لأنه يشغل الشعوب عن قضايا الفساد المالي والسياسي، وثانيا لكونه يمثل خطابا منافسا للجماعات الإسلام السياسي وللجماعات الإرهابية، وثالثا لأنه مساند للحكومات في كل ما تذهب إليه، وأيضا لا يحمِّلها أوزار ما وصلنا إليه، ورابعا وأخيرا يقـدم هذا الخطاب الديني صيغة للتعايش مع دول العالم الغربي بشروط هذه الأخيرة.

الخطاب الديني الموازي لكل الخطابات الدينية الأخرى، يبدو في ظاهره أنه فعل أفراد، ولكن في باطن حقيقته، إما أن يكون نتاج تنظير أصحاب القرار، وإما مسكوت عنه من طرفهم، لأنه مرغوب ومطلوب، وفي الحالتين يعبّر عن طبيعة مرحلة كثرت فيها الخطابات وتعددت، وأيضا فشلت فيها أنظمة عربية كثيرة في تطوير الدين وجعله عامل تغيير إيجابيا، تماما مثلما فشل المحتكرون للدين، سلما وحربا، والكل هنا يوظف التقنيات الحديثة في الإعلام للترويج لخطابه بغض النظر عن تحقيق أهدافه من عدمها، ما يعني أننا نتجه نحو المزيد من التوتر الداخلي على خلفية دينية، وقد ننتهي جميعا إلى سؤال لا نملك إجابة عنه هو ما علاقتنا نحن العرب بالدين الإسلامي؟

وفي انتظار تلك المساءلة، علينا الحسم في تطبيقات الدين وأنواع الخطاب المتصلة به، وإنهاء التوتر بينه وبين السياسة، حتى نحل إشكالية الصراع بين ما هو ديني وما هو سياسي، والبداية بالتخلص من وهم أن الحرب على تيارات الإسلام السياسي تبدأ من دعم جماعات دينية أخرى، أو تطويق الدين والتضييق على حرية المساجد التي يأتيها الناس كل يوم طواعية، وسيفدون إليها بالليل والنهار، ومادامت موجودة، فعلى الحكومات أن تدرك أن الحل الواقعي هو مد جسور معها، عبر توفير حرية للخطاب فيها بشكل منظم يحافظ على حرية الأئمة ويُعلَّي من مكانتهم أمام المصلين، وإلا علينا انتظار تعدد المنابر الدينية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وما سيتبع ذلك من فوضى على مستوى الجبهات الداخلية في كل الدول العربية دون استثناء.

13