عود اللوز الأخضر

الجمعة 2017/07/21

لا شيء يمنع البشر من مراجعة مساراتهم الفكرية واكتشاف الخلل، فلا يعقل أن نبقى نعيش كما عاشت “شيراند”.

وشيراند هذه هي دار نشر ألمانية تخصصت بإصدار الخرائط الجغرافية. وتعد خارطتها الأكثر شهرة عن جبل بروكين في سلسلة هارز أعلى نقطة بشمال ألمانيا، حيث مناجم الأحجار الكريمة.

إلا أن أحدث القياسات برهن على أن ارتفاع بروكين هو 3747 قدما وليس 3741 قدما كما هو مطبوع في خارطة شيراند التي وقعت في حرج كبير. وكي تحافظ على دقة معلوماتها وسمعتها، وبدلا من أن تسحب تلك الخرائط من السوق، قامت بتكليف شركة إنشاءات برفع قمة الجبل ستة أقدام إضافية ببناء كومة صخرية.

هذا بالضبط ما يحصل مع العرب، فهم يريدون للواقع أن يكون مطابقا لما في عقولهم، وليس العكس، ولذلك يسعون إلى تحويره. فالمسائل الكبرى لا يجب أن تحسم، لأن هذا هو الملائم للشخصية النواحة البكائية التي يتمتع بها كثيرون. والأجيال لا يجب أن تتعلم، لأن هذا ما يتوافق مع قدرة الكثيرين على تطويقها بالسيطرة.

ونحن، اليوم، نغادر زمنا شاءت له الأقدار أن يكون طويلا، ألف الناس فيه قضاياهم غير المحلولة، أكثر مما تعلقوا بأحلام المستقبل.

غير أن هذا التحوّل استحقاق واجب الحدوث، لأن الزمن لا يدور حول نفسه، كما تدور السيكولوجيا في لوحة “الصرخة” الشهيرة للنرويجي إدفارت مونك، ولا بد للحقائق العلمية من أن تغلب في النهاية. فقد عشنا خلال المئة عام الماضية في أسطوانة سنجاب، تدور بنا حين ندورها نحن بأرجلنا كلما أوشكت على التوقف. حتى جاء يوم ظننا أنه بوسعنا الهرب منه إلى الأبد، يوم حساب على التنمية والوعي، على التحضر، على التطور العلمي أو الغرق النهائي في داعش وأخواتها والظلام الدامس.

ولم يكن خبر إغلاق المسجد الأقصى الجمعة الماضية، مزعجا بالقدر الذي كانت مزعجة دهشة الناس بالخبر ذاته. فالمسجد والقدس كلاهما مغلقان منذ خمسين عاما، والعقول مغلقة معهما منذ ذلك الحين.

وحتى تلك الأغنية المليئة بالشجن والأمل التي كتب كلماتها الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور الذي غادر عالمنا قبل أشهر قليلة، ولحنها الموسيقار الكبير حسين نازك لم تنج من كونها عالقة في ذلك البرزخ الصعب “والله لزرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر/ واروي هالأرض بدمي/ تتنور فيها وتكبرْ/ عالجرمق غنّى الصفدي/ غزة والبيرة بلدي/ والقدس بتهتف ولدي/ أوعك عني تتأخَّرْ”.

تأخر الإدراك عن أن يكون جاهزا لهذه اللحظة. وخير ما تصدق فيه أغنية دحبور هو أن عود الوعي عندنا لا يزال أخضر طريا لم يقو ولم يشتدّ.

24