الأزمة الخليجية وتركيا: العودة لنقطة الصفر

السبت 2017/07/08

يعيد موقف أنقرة من الأزمة الخليجية التذكير بالتحوّل الكبير الذي عصف بالسياسة الخارجية التركية منذ اندلاع الربيع العربي وأدخلها في تخبّط كبير. فرغم محاولة أنقرة كبح جماح ذلك التخبط منذ نهاية العام الماضي وذلك بإعادة السياسة الخارجية إلى مسار عقلاني أو معتدل، أخرج اندلاع النزاع الخليجي عربة السياسة الخارجية عن مسارها الجديد لتعود للتخبط من جديد.

لدى إعلان الدول العربية الأربع خلافها مع قطر، لم يفكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرتين قبل اتخاذ موقف من النزاع، بل أعلن دعمه لقطر بحماس شديد منذ اللحظات الأولى. ومع رد قطر قبل أيام على مطالب الدول الأربع بالرفض، سارع أردوغان للإعلان مجدداً بأن المطالب المقدمة للدوحة “غير مقبولة”، ومندفعاً في سياسة سوف تعيد توتير العلاقات التركية مع دول الخليج العربي.

كان سلوك الرئيس التركي سيعتبر لافتاً قبل العام 2011 حين كانت تركيا تحسب مواقفها وتصريحاتها بدقة. وهو ما كان ينتج مواقف سياسية متوازنة تحاول التوفيق بين أطراف عديدة للحفاظ على دور واسع عملاً بسياسة “صفر مشاكل”. لكن الحال تغيّر بصورة دراماتيكية بعد اندلاع الربيع العربي إذ غرقت تركيا بالمشاكل.

لا يقتصر الأمر على بعض دول الخليج العربي والتي تخوض معها أنقرة صراعات باردة بدعم أطراف مختلفة في ليبيا ومصر وسوريا. ولكن أيضا مع أوروبا حيث تتخذ تصريحات أردوغان تجاهها طابعاً دغمائياً أيديولوجياً لا يمت للعقلانية السياسية بصلة، بل يبدو أقرب للتسويق والبروباغاندا الداخلية إلى حد بعيد.

خلال السنوات الماضية انتقلت تركيا من دولة ديمقراطية براغماتية ذات هوية حديثة ومستقرة السياسات، إلى دولة تنحو باستمرار باتجاه الاستبداد وتقييد الحريات وبعث التقاليد الرجعية القديمة بالداخل. كان لكلا النسختين من تركيا بعد توسعي ولكن باتجاهين وأيديولوجيتين مختلفتين.

قبل العام 2011، كانت رغبة تركيا بالدخول للاتحاد الأوروبي تدفعها لتعزيز القيم الديمقراطية وفصل السلطات عن طريق سلسلة من الإصلاحات السياسية والقضائية. كما حاولت التوسع نحو المحيط العربي والإسلامي ولكن بخطاب حداثي يعتبر الاقتصاد الحر عموده الفقري. كانت تلك مرحلة الانفتاح العقلاني والمدروس وفتح قنوات اتصال بصورة مستمرة باعتبارها كسباً بحد ذاته.

أما بعد الربيع العربي، اكتسب التوسع التركي بعدا أيديولوجيا إسلاموياً، وخصوصا مع ما بدا على أنه نجاح ساحق للإخوان المسلمين في المرحلة الأولى التي تلت الربيع العربي. اندفعت تركيا لدعم أطراف محددة في سوريا وليبيا ومصر في خضم مرحلة إعادة تأسيس للمنطقة. وهو ما رفع رهانات التدخل الخارجي بصورة كبيرة لجميع الأطراف، وكان على تركيا أن تواجه أطرافا أخرى في ساحات معارك حقيقية وليس سياسية.

أدت تلك السياسة لانكماش شبكة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية التي نسجتها تركيا طيلة العقد السابق للربيع العربي. وكان الاعتقاد أن النتيجة النهائية مغرية إلى درجة تبرر التكاليف الباهظة المدفوعة حالياً. كانت تلك النتيجة مرتبطة بالطبع بسيطرة الإخوان المسلمين على عدد من الدول العربية في ظل تبعية مطلقة لـ”الخليفة” التركي رجب طيب أردوغان.

ومع فشل الإخوان لاحقاً وتلاشي حظوظ تركيا بإيجاد “رعايا” في دول مجاورة، سيطرت على سياستها الخارجية حالة من الفوضى. يمكن ملاحظة محاولات التهدئة والتراجع خطوة للوراء بما يخص علاقاتها مع روسيا والسعودية والإمارات خلال العام الماضي. حيث حاولت بجهد كبير إصلاح العلاقات السياسية مع تلك الدول، فزار الرئيس التركي السعودية في شهر فبراير من العام الحالي ورفع من حدة انتقاداته لإيران.

كما أصلح العلاقات مع روسيا التي باتت شريكا لتركيا في شمال سوريا. بدا أن تركيا قد قطعت كل آمالها بالإخوان المسلمين وأنها تتجه لإجراء تحول كبير في سياساتها الخارجية التي لم تجلب لها سوى العداء. ولكن موقفها من الأزمة الخليجية ومساندتها لقطر أعادها إلى المربع الأول مجدداً.

ربما تنبع الفوضى في السياسات الخارجية التركية من السياسة الداخلية. لقد فقدت تركيا خلال السنوات الماضية الإدارة المؤسساتية مع سيطرة أردوغان بشخصيته الموتورة على مفاصل الحكم والعبث بالمؤسسات المستقلة ومنها القضاء والسلطة التشريعية. لقد باتت قضية بقائه في السلطة هي الشغل الشاغل لمؤسسات الدولة، ويتطلب ذلك إخضاع السياسة الخارجية لخدمة هذا الغرض.

منذ نحو أربعة أعوام، لا تعيش تركيا حالة طبيعية. الحقيقة أنها تشهد حربا داخلية تجعل النظام في حالة فوضى وتزيد من تشدده على صعيد السياسة الخارجية. هناك حرب على حزب العمال الكردستاني وعمليات عسكرية في المناطق الكردية. يضاف إلى ذلك حرب أردوغان على أتباع رجل الدين المعارض فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والذي كان حليفا له حتى العام 2013.

يبدو أن أزمة الشرعية بالداخل، وتلاشي الإجماع الذي طالما شكل عنصر القوة لدى الحزب الحاكم استدعى تعويض ذلك برفع حدة الخطاب الأيديولوجي بالداخل والخارج. هكذا، فإن الأزمة الخليجية وموقف تركيا المتسرع والحاد منها يؤكدان أن العودة لسياسة “صفر مشاكل” ليست مجرد قرار بمتناول السلطان أردوغان، بل هي مرتبطة بسياسة صفر مشاكل في الداخل التركي.

كاتب فلسطيني سوري

8