"واحة الغروب".. إبداع الصورة يحلق في ثنايا الرواية

القاهرة – بعد عامين من التأجيل خرج مسلسل “واحة الغروب” إلى النور ليضفي إطلالة مميزة على دراما رمضان المنقضي بتقديمه لحالة متفردة تنطلق من العنصر الزمني الذي يدور قرب نهاية القرن التاسع عشر، ويستعرض العمل مشاهد من القاهرة وواحة سيوة في صحراء مصر الغربية، في استعراض لتاريخ المرحلة السياسية التي مرت بها البلاد إبان الثورة العرابية وما أعقبها من تمكين الإنكليز من احتلال مصر.
هذه الحقبة الزمنية التي لم تفتح الدراما أبوابها إلاّ في واحد من أعمالها الاستثنائية “بوابة الحلواني” الذي استعرض أهم الأحداث السياسية التي شهدتها مصر في ذلك القرن وعلى رأسها حفر قناة السويس، وهنا في “واحة الغروب” يفتش الأديب بهاء طاهر عن أوجه أخرى للاستعمار الذي لم يترك ساكنا في البلاد، فذهب إلى الواحة واختار مأمورا مصريا يقوم بجمع الأموال (الإتاوات) من الأهالي بعد تورطه في تأييد الثورة العرابية.
ويستكمل المشهد بهذه الصورة البصرية شديدة الجمال في التكوين على مستوى الإضاءة والتصوير والكادرات التي تفتش بين الصخور والجبال، كطبيعة مناخ هذه الواحة تحت إشراف مخرجة العمل كاملة أبوذكري التي تترك بصماتها بين عمل وآخر، واختياراتها المتأنية التي سبق أن حققت نجاحا من خلالها كما في مسلسلي “ذات” و”سجن النسا”، وتحديدا الأول، لكونه أيضا كان يستعرض أكثر من مرحلة تاريخية في عهد ثلاثة رؤساء جمهورية (جمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك) متطرقا إلى التاريخ السياسي والاجتماعي للدولة.
تنطلق الأحداث الدرامية لمسلسل “واحة الغروب” من واقعة ضرب الأسطول الإنكليزي للإسكندرية في 11 يوليو 1882، هذه المشاهد التي صنعتها المخرجة من مجرد قراءات للتاريخ أو لسيناريو العمل، فقدمت صورة ممزوجة بالمزيد من الواقعية خلال هذه الفترة، حيث انتشال جثث الجرحى ووضعها على عربة “كارو”، وبين هذه المشاهد الأليمة تظهر مشاهد التفجير إثر انطلاق المدافع نحو الشعب والمدينة.
|
وتستمر دموية المشهد لتنتقل بعد ذلك إلى حديث يبدي فيه صديق الضابط “محمود عبدالظاهر” الذي يؤدي دوره الفنان خالد النبوي استياءه من المشهد، ولعل هذا الحدث الذي افتتحت به السيناريست مريم نعوم معالجتها للرواية كان بمثابة خطف لأنظار المشاهد، فالأحداث في الرواية لم تبدأ بذلك، بل بسرد محمود عبدالظاهر وإبلاغه بانتقاله إلى العمل في واحة سيوة، ويرد ذكر ضرب الأسطول على لسانه خلال تذكره لصديقه الذي راح ضحية هذه الأحداث.
هنا تتحقق المتعة البصرية ببداية أكثر تشويقا وجاذبية من خلال حركة الكاميرا التي تبدأ بلحظة سكون في نظرة سريعة بين الأسطول والمدينة، ثم تتحرك سريعا بين الجرحى والقتلى، الأمر الذي يمثل تحديا في نقل حدث يأتي ذكره على لسان البطل إلى موضوع حلقة كاملة من العمل الدرامي.
ليس هذا التحدي الوحيد، بل إن المؤلفة أفردت مساحة وفيرة بين البطل محمود عبدالظاهر والبطلة “كاثرين” (منة شلبي) زوجته الأيرلندية التي يتعرف عليها في سفينة كانت تقلهما لأسوان، وهي المشاهد التي أفسح لها صناع العمل مساحة وفيرة للتعارف بين بطلي العمل لإبراز كيفية نشوء قصة الحب بينهما، خصوصا وأن البطل معروف بنزواته النسائية.
تضاف إلى ذلك مشاهد كاثرين ضمن أحداث العمل أثناء محاولتها تعلم طهي المأكولات المصرية بعد زواجها من محمود على يد خادمته أو نطقها لبعض الكلمات العربية “العامية”، كل ذلك من أجل إضفاء مناطق ثرية دراميا لتهيئة المشاهد للانتقال بعد مرور الحلقات الأولى إلى الواحة بالتدريج دون إقحامها في البداية، ما يسبب جمودا وانصرافا في عنصر المشاهدة.
هذا التهيؤ الذي فرضته أسرة العمل مع المشاهد استمر أيضا قبل انتقال محمود وزوجته إلى الواحة، حيث يروي البطل تفاصيل من حياة أهلها هناك خلال قراءته للملف الخاص بها بمشاهد قليلة تتخلل الحلقات الأولى.
"واحة الغروب" يقدم صورا بصرية شديدة الجمال على مستوى الإضاءة والتصوير وتفتش بين الصخور والجبال
وقد فرضت الكاتبة مريم نعوم حالة إبداعية بتحويل العمل الروائي إلى سيناريو مكتمل وبدأت تحصد الإشادات منذ بداية عرض المسلسل، وهذا ليس بجديد عليها فقد سبق أن قامت بتحويل رواية “منخفض الهند الموسمي” للكاتب الراحل أسامه أنور عكاشة إلى مسلسل “موجة حارة” وعرض منذ عامين وحقق نجاحا باهرا.
يبقى الاختبار الأصعب في استمرار هذه الحالة شديدة الخصوصية خلال النصف الثاني من أحداث العمل، والذي تقوم بكتابته السيناريست هالة الزغندي، فرغم نجاحها في الأعمال التي قدمتها وحققت جماهيرية واسعة، آخرها مسلسل “حجر جهنم”، والتي يغلب عليها طابع الإثارة في عالم الجريمة، إلاّ أن هذا العمل يعد التجربة الأولى لها في مسألة تحويل عمل روائي إلى درامي.
التصوير في مسلسل “واحة الغروب” هو الجائزة الكبرى، فبعيدا عن مميزات العمل الأخرى على جميع الأصعدة، تحكي الصورة عن إبداع خاص بقيادة نانسي عبدالفتاح مديرة التصوير التي اجتهدت في تقديم حالة فريدة في الانتقال بالكاميرا بين الجبال والصخور والممرات الضيقة بالواحة، بالإضافة إلى مشاهد القاهرة خصوصا في ضرب الأسطول الإنكليزي للإسكندرية مطلع الحلقات أو تلك التي جمعت بين الزوجين لتعطي إحساسا بإضاءة النهار في الصباح الباكر وظلمة الليل بقدر ضئيل من الإضاءة التي تحدث بمجرد إنارة ضئيلة بالمكان كطبيعة المرحلة الزمنية.
تبدو براعة المصورة في مشاهد المعركة التي بدأت بها الحلقات، لا سيما مع توسيع حركة الكاميرا في المشهد الأول الذي يظهر مدافع الأسطول وأمامها مدينة الإسكندرية (شمال القاهرة) على الجانب الآخر، ثم انطلاقة سريعة بعد إطلاق النيران بين الحارات الضيقة والشوارع خلال إنقاذ الجرحى والمصابين لوضع المشاهد في الصورة بطريقة أكثر واقعية.
أما عن نجوم العمل، فهناك حالة من الإتقان والتلاحم الشديد مع شخصياتهم، الأمر الذي جذب المشاهد لشخصيات الرواية مع الإقرار بأن هذا العمل استثنائي في جميع تفاصيله، وهو بالتالي مشروع عمرهم.
خبرة الفنان خالد النبوي السابقة في مسلسل “بوابة الحلواني” الذي كان ينتمي إلى نفس المرحلة الزمنية أهلته للإتقان الجيد في “واحة الغروب”، وأضاف على أدائه الكثير من الحنكة التي صاحبت سنوات عمره الماضية، ويصاحب ذلك الكيمياء التي جمعت بينه وبين شريكته منة شلبي في دور كاثرين التي خضعت لتدريبات كثيرة على طريقة نطق الكلمات الهجائية بطريقة تبدو أنها أجنبية متلعثمة في الحديث بالعامية المصرية، علاوة على الروح الهادئة التي صاحبت شخصيتها كطبيعة المرحلة الزمنية والدولة التي جاءت منها، ونعني هنا إيرلندا.
مسلسل “واحة الغروب” عمل شديد الحرفية والإتقان، وقد يكون الحصان الرابح في المارثون الرمضاني هذه السنة للخصوصية التي يتمتع بها على مستوى الأحداث ولغة الصورة التي تتحدث عن نفسها، كما أن هناك حالة من الاهتمام لدى المشاهد دفعته إلى البحث عن حلقات العمل كاملة عبر مواقع الإنترنت بعد أن فقد عددا من المشاهد المحذوفة من العرض على القنوات الرسمية.