المصح العقلي وطن الأحلام المشتهاة

يقدم الشاعر والكاتب المصري علي عطا في روايته الأولى المعنونة بـ”حافة الكوثر” سيرة ذاتية لصحافي مصري لا يستطيع احتمال عبثية الحياة، فيسقط بين براثن الاكتئاب.
دلالات عكسية
تشتبك “حافة الكوثر” الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية مع الأحداث الجارية إلى حد الإغراق في التفاصيل، لتقدم شهادتها على ما حدث في الساحة المصرية والعالمية خلال السنوات الخمس اللاحقة للربيع العربي، كما تتبنى الرواية رؤية قريبة للمرض النفسي وتوغل في تتبع أثره وانعكاساته النفسية على أصحابه.
يبدو عنوان الرواية “حافة الكوثر” لافتا بدلالاته العكسية، فالكوثر بإيحاءاته اللغوية والروحية ما هو إلا اسم للمصح النفسي الذي يقيم فيه بطل الرواية على فترات متقطعة، وتتيح لنا هذه المقابلة بين المعنى اللغوي للكلمة وطبيعة المكان الذي تشير إليه في الرواية مدخلا مناسبا نستطيع من خلاله الولوج إلى سياق الأحداث وتحسس التركيبة النفسية لبطل الرواية الذي تفترسه الكآبة من دون سابق إنذار.
وتبدو الوقائع التي يسردها بطل الرواية، حسين جاد، كرسائل شخصية متبادلة بينه وبين أحد الأصدقاء القدامى عرضا لبوادر هذا الانهيار الذي ألم به وسردا لمسبباته، فالأحداث العامة تشتبك مع التجارب العاطفية والحياتية للشخصية المحورية على نحو لافت، بما يحمله هذا الاشتباك من تناقض وشعور دفين بالعجز إزاء هذه الأحداث، لتتشكل أمامنا شيئا فشيئا ملامح ضبابية لشخص حيادي تتسم تصرفاته بالسلبية إلى حد الانسحاب من الواقع واستبداله بآخر أكثر تناغما، واقع ينأى به عن حالة اللوم المسيطرة والمستمرة من جراء سلوكه الحيادي إزاء ما يحدث، فهو يبدو متفرجا على الأحداث من بعيد ولا يبادر بالمشاركة، رغم شعوره الطاغي بعدالة هذه المشاركة.
يكتفي بطل الرواية على سبيل المثال بمراقبة الطوفان البشري الهادر في الشوارع المحيطة بميدان التحرير خلال الأيام الأولى للثورة المصرية، مطلا من شرفة الصحيفة التي يعمل بها، وتبدو الثورة المصرية في خلفية هذه الأحداث أشبه بالوعاء الذي تبدأ منه وتنتهي إليه.
في “حافة الكوثر” تشتبك تواريخ الأماكن مع هذا الحراك السياسي والاجتماعي الطاغي على الأحداث، كمسجد الفنان حسين صدقي الذي ارتبط بعلاقة مع جماعة الإخوان، وكذلك النصب التذكاري لشهداء الحرب في مدينته القديمة، وبيت جاره المسيحي.
يتساءل بطل الرواية “هل يمكن يا الله أن يصبح الكوثر وطنا بديلا لناسه الوافدين إليه، رغما عنهم من كل صوب وحدب؟.. هو بات كذلك بالفعل، ولا بديل له إلا شوارع لا ترحم ساكنيها”.
|
وطن بديل
من داخل الكوثر يرسم البطل صورة حية لنماذج المرضى الذين التقاهم، هؤلاء الذين تفاعل معهم إلى حد الرغبة في البقاء بينهم بعيدا عن عبثية الحياة، ليتحول الكوثر إلى كيان بديل يحمل شيئا من معناه اللغوي، وهو حين يصفه لصديقه الذي يتحدث إليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي يسبغ عليه هالة أسطورية “الكوثر تصل إليه نسمات النيل، وتؤنس أهله عصافير تسكن فوق شجرة توت، وقطط تتوالد في الفناء الضيق، ولا يمكن أن ترى أيا منها في محيط غرف أهل المكان من البشر الذين ينامون في أول الليل أمام شاشة التلفزيون، بتأثير عقاقير مختلفة الألوان والأحجام، ويستيقظون منهكين مع أول ضوء، ليتناولوا شايا بحليب مع سجائر متتالية، قبل الإفطار المقترن بحصة جديدة من العقاقير”.
سكان الكوثر مسالمون لا يستطيع معظمهم التأقلم مع العالم الخارجي، لذا رضي معظمهم بالبقاء فيه طائعين رغم إمكانية مغادرتهم، وهنا يقول عطا “حتى لو تحدث أحدهم في مسألة أنه يريد أن يخرج، فإنه ربما لو وافقوا له على ذلك، لتقدم برجل وتأخر بالأخرى، ثم لو عاد إلى بيته لن يتمكن من التأقلم معه، أو قد يضيق به أهله وزملاء العمل مجددا، وبالتالي يساق مرة أخرى إلى الكوثر”.
ويضيف الشاعر والكاتب المصري في روايته “الاكتئاب لئيم، لا تعرف متى يهاجمك، وعلى أي درجة من الضراوة سيكون، وإلى أي مصير يمكن أن يدفعك”، هكذا يصف بطل الرواية حاله مع المرض مستعرضا تأثيراته النفسية التي ربما تؤدي في النهاية إلى الانتحار، لكنه لا يستطيع الفكاك رغم ذلك من السلبية التي تسيطر على سلوكه، فهو غير قادر على اتخاذ قرار الانفصال عن زوجته، وتظل علاقته بزميلته الصحافية معلقة في انتظار هذا القرار، كما لا يستطيع تحمل العبث الذي يخيم على كل التفاصيل من حوله، لذا فهو لا يخرج من الكوثر إلاّ ليعود إليه من جديد.
و”حافة الكوثر” هي التجربة الروائية الأولى للشاعر والصحافي المصري علي عطا، وهي تبدو أشبه بالسيرة الذاتية لتقاطع تفاصيلها مع تجربته كصحافي وشاعر، لكن الرواية تبقى في النهاية عملا إبداعيا بعيدا عن هذا الاشتباك مع تفاصيل حياة كاتبها، علينا التعامل معها كنص مستقل عن أي تأثير لطبيعة مبدعها، بعيدا عن المقارنات والمقاربات التي يحلو للبعض تتبع أثرها في سياق العمل.
أما على مستوى السرد، فقد جاء متأثرا إلى حد ما بالروح الشعرية للكاتب، فبدا عالقا بين الرواية والشعر، غير أن هذا المزيج قد أكسبه طبيعة خاصة تجمع بين الحبكة الروائية والمجاز الشعري.
وعلي عطا، شاعر وصحافي مصري من مواليد المنصورة (شمال مصر) في عام 1963، أصدر حتى الآن ثلاثة دواوين هي: “على سبيل التمويه”، و”ظهرها إلى الحائط”، و”تمارين لاصطياد فريسة”، وله قيد النشر ديوان بعنوان مبدئي هو “يوميات صائد فراشات”.