في مؤتمر أستانة.. روسيا الخصم والحكم

لم يطل الوقت حتى وافقت المعارضة السورية المسلحة على المشاركة في مؤتمر أستانة، الذي ترعاه روسيا وتركيا في العاصمة الكازاخية في 23 من الشهر الجاري، وقامت بتحديد وفدها، وقوامه ممثلون عن الفصائل المسلحة الـ13 الموقعة على اتفاق وقف إطلاق النار في اليوم الأخير من العام الماضي، الذي جرى إقراره في أنقرة بضمانة روسية وتركية.
وبغض النظر عن أهداف هذا المؤتمر، ومدى إمكانية نجاحه أو حتى التخفيف من الحرب السورية، فاللافت في الأمر أن المشاركين هم القوى العسكرية السورية المعارضة، مقابل تهميش القوى السياسية المعارضة، بما فيها الهيئة العليا للمفاوضات التي تعتبر المفاوض المعترف به دوليا عن المعارضة السورية، والوحيد الذي شارك في مفاوضات جنيف الأخيرة التي جرت برعاية أممية، وكذلك تهميش ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، الذي يضم تشكيلة واسعة من التيارات والأحزاب والتجمعات السياسية المعارضة.
النوايا الروسية
يُعطي الروس أهمية كبيرة لهذا المؤتمر، ويسعون بشكل جدّي لعقده وإنجاحه، بطريقتهم طبعا، ومارسوا ضغوطا عبر تركيا على المعارضة السورية المسلحة لتقبل المشاركة فيه، وهددت أنقرة الفصائل بوقف الدعم المالي والعسكري وإغلاق الحدود إذا قررت عدم المشاركة، وأقنعتها بأنه بإمكانها طرح شروطها في المفاوضات، مراهنين على إضعاف الأكراد الموالين لحزب العمال الكردستاني وإضعاف النفوذ الإيراني في سوريا عبر التعاون مع روسيا.
ويسعى الروس لـ”ترقيع” الوفد المفاوض الذي سيمثل المعارضة ببعض الشخصيات المعارضة المنتمية إلى هذه التكتلات، لكن في الغالب ستتم دعوتها بصفتها الشخصية، وليست كممثلة لتلك التكتلات، وبالتالي سيُهمّش الروس التكتلات السياسية السورية المعارضة، لصالح مجموعة من الفصائل التي لا تُمثّل إلا جزءا من القوى العسكرية المقاتلة في سوريا، فهي لا تضم كل الجبهة الجنوبية التي تعمل في نطاق واسع في جنوب سوريا، كما لا تضم سبعة فصائل كبرى ومتوسطة رفضت حضور مؤتمر أستانة لشكوكها في أهدافه، من بينها “حركة أحرار الشام” و”صقور الشام” و”فيلق الرحمن” و”ثوار الشام” و”جيش إدلب” و”جيش المجاهدين”.
وعلى الرغم من هذه النوايا الروسية، إلا أن كل المعطيات تؤكد على أن المؤتمر لن يبحث إلا في مسألة وضع خطة لوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية، لكن العملية السياسية لن تُبحث، وستكون مؤجلة في الغالب إلى مؤتمر جنيف الذي أعلنت عنه الأمم المتحدة في الثامن من فبراير المقبل.
شكك المعارض السوري سعيد مقبل في أن تكون أهداف المؤتمر وضع خطة لتثبيت وقف إطلاق النار، وقال إن موضوع تثبيت وقف إطلاق النار “لا يحتاج لأستانة، إنه يحتاج لقرار روسي، بل أممي فالمعارضة السورية تطالب منذ سنوات بصدور قرار أممي مُلزم تحت الفصل السابع لوقف إطلاق النار، لكن روسيا تعرقله، والنظام وإيران يخرقان كل هدنة مؤقتة، لذلك لن يكون هناك ضامن من مؤتمر أستانة لوقف إطلاق النار، فالخصم روسيا هو نفسه الحكم، وهذا لا يمكن أن يقبله عقل”.
وأضاف “مؤتمر أستانة خدمة مجانية لروسيا، لتصنع أطرافا إضافية تمهيدا لإشراكها في مؤتمر جنيف الرابع المقبل، وهو ما فشلت به في مؤتمرات جنيف السابقة”.
وبعد أن صار المؤتمر أمرا واقعا، بدأت بعض أطراف المعارضة تُنبّه وتُطالب الفصائل العسكرية التي ستشارك فيه بالابتعاد عن مناقشة الشق السياسي، وفي هذا السياق، قال المعارض السوري نادر جبلي “أستانة محطة إجبارية محفوفة بالمخاطر، بحكم تحكم الروس بها، ولا تملك الفصائل رفاهية عدم حضورها، وهي لا تملك خبرة سياسية، ولا تستطيع مخالفة أمر تركيا، وحتى لا تتورط وتمنح الفرصة للروس والأتراك بإضعاف مرجعية جنيف ورعاية الأمم المتحدة واستبعاد الأصدقاء، يجب على الفصائل الإصرار على عدم تناول الشأن السياسي، والتركيز على آليات تثبيت وتعزيز وقف إطلاق النار فقط”.
وفي الغالب، سيعنى مؤتمر أستانة بالوضع العسكري الميداني وليس بالسياسي، لكن الثنائي الإيراني – الروسي سيستغلانه لأبعد حد لحرف هذا التوجّه، ولمحاولة فرضه كتسوية سياسية، بعد أن فشلا في فرط عقده من خلال الاستمرار بخرق وقف إطلاق النار في مناطق عديدة من سوريا، وربما لهذا الأمر تحاول روسيا إبعاد إيران عن الضلوع المباشر بهذا المؤتمر، وعدم مشاركة إيران فيه بشكل رسمي، على الرغم من أنه نتيجة اتفاق روسي – تركي – إيراني مشترك.
يسعى الروس للاتفاق مع الفصائل العسكرية لسحب البـساط من الهيئة العليا للمفاوضات ويساعدهم الأتراك في ذلك
ويسعى الروس بالمقابل للاتفاق مع الفصائل العسكرية مباشرة لسحب البساط من الهيئة العليا للمفاوضات، ويساعدهم الأتراك في ذلك، لكن أي قرار يصدر سيكون فاقدا للتمثيل السياسي السوري المعارض، وسيظل محل تشكيك ورفض طالما أنه لن يحقق أهداف التكتلات السياسية السورية المعارضة، خاصة مع وجود شكوك كبيرة جدا بقدرة الفصائل المسلحة وكفاءتها المهنية للدخول في مفاوضات سياسية.
ويقول عضو الهيئة السياسية في الائتلاف عقاب يحيى “إن تحويل مهام الفصائل العسكرية إلى طرف سياسي، أمر يحمل دلالات خطيرة كثيرة، بالنظر إلى أن تلك الفصائل يفترض أن لا علاقة لها بالشأن السياسي التفاوضي، وليست صاحبة خبرة، وأهل اختصاص في مسار التفاوض والقرارات الأممية وعراقيل مفاوضات جنيف 1 و2 وملابسات تفسير القرارات الأممية، وبما يعني أن النوايا معقودة لخلخلة مؤسسات المعارضة وتغليب العسكري على السياسي”.
ويحاول الروس جعل أستانة مساراً خاصا بديلا عن مسار جنيف، ولهذا استبعدوا عقده تحت رعاية الأمم المتحدة، ولم يوجّهوا دعوات للولايات المتحدة، ولا لدول إقليمية ذات نفوذ في الشأن السوري كالسعودية وقطر، ويبدو أنه لن يدعوا حتى المبعوث الأممي لسوريا ستيفان دي ميستورا، لكن هذه المحاولات الروسية ستفشل، فلا روسيا ولا غيرها باتوا يستطيعون الابتعاد عن إعلان جنيف ومؤتمرات جنيف دون موافقة دولية شاملة.
حلول جزئية
يحاول مؤتمر أستانة التغريد خارج سرب المجتمع الدولي، فهو لا يسير على مرجعية الأمم المتحدة، وفي نفس الوقت غير مُعترف به دوليا كمؤتمر لحل المسالة السورية، فالقرار 2336 الذي اتخذه مجلس الأمن، مطلع العام، نصّ فقط على “أخذ العلم” بعقد المؤتمر، ما يعكس عدم رضا الدول الأوروبية والولايات المتحدة والأمم المتحدة عن هذا المؤتمر.
لكن الخروج ببعض النتائج المعقولة والحلول الجزئية أمر ممكن بالنسبة إلى بعض المعارضين السوريين، بسبب التقارب الروسي – التركي من جهة، وتغير الموقف الروسي من الحرب السورية من جهة أخرى، واكتشاف حقيقة إيران دوليا من جهة ثالثة. ويقول المعارض السوري جبر الشوفي “تأمل أكثرية السوريين في أن يحقق أستانة إيقاف القتل وتحقيق الأمن، وهذا شيء هام لا بدّ من أن تدعمه الأطراف الدولية والإقليمية، ولكن مع توفر كل الاحتمالات لا بدّ للسوريين أن يحضروا (ولادة عنزتهم) بالالتفاف حول المفاوضين المختارين وبالتنسيق بين العسكريين والسياسيين والاتفاق على محددات وأولويات، تضغط باتجاه الحد الأقصى الممكن ولا سيما في موضوع هيئة الحكم الانتقالية”، وعلى السوريين أيضا “كسب المعركة الدبلوماسية، على أرضية افتضاح الدور الإيراني المعرقل، وتصاعد الشقاق بينه وبين الأتراك من جهة والروس من جهة ثانية، ومن هنا نعي أن الحل المطروح للتفاوض مرورا بأستانة، سينطوي على معركة متوقعة مع الإيرانيين”.
ويمكن الجزم أن الأطراف السورية المتصارعة عسكريا، والتي وافقت على التفاوض، في أستانة، سواء النظام أو المعارضة، اضطرت إلى الموافقة على حضوره مُرغمة، وعليه من الصعب أن تصل في أستانة إلى حل توافقي، اللهم إلا محاربة جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية، محاربة فردية، أي كل طرف يحاربها من جهته، دون تنسيق أو تعاون بينها في هذا المجال، وهذا ستكون له نتائج غير مرضية وقابلة للانعكاس، خاصة وأن بعض فصائل المعارضة لا تنظر إلى هذه القوى العسكرية المتشددة كخصم أول لها، بل النظام السوري هو ذلك الخصم، فيما تحوم شكوك حول علاقة النظام بتنظيم الدولة في بعض المناطق، ووجود اتفاقيات بينهما، لتوليد الكهرباء وبيع النفط وتمرير الغاز وغيرها.
ونبه الكاتب السوري جاد الكريم الجباعي إلى أمر في غاية الأهمية، ويقول “إن العسكر سيصنعون السياسة بصورة مباشرة في أستانة، وربما بصورة غير مباشرة في جنيف، ومن سيفعلون ذلك كلهم (وهو يعني مقاتلي المعارضة والنظام)، ارتكبوا جرائم موصوفة وموثَّقة، أو أمروا بارتكابها أو تغاضوا عنها أو برروها، على مرأى ومسمع من العالم”. إن امتنع مؤتمر أستانة عن تداول الحل السياسي، ونجح في معالجة ونقاش الجانب العسكري، وخرق هذا الجانب، أو على الأقل جزءا منه، أي تثبيت وقف إطلاق النار، فإنه سيعتبر ناجحا، لكن دخوله متاهات السياسة، سيدمره، وسيلغي كل ما يمكن أن ينتج عنه، ذلك لأن روسيا تفترض أن بقاء الأسد ونظامه أمر غير قابل للنقاش في الحل السياسي، وإنما سيبقى على رأس منصبه بصلاحياته حتى تنتهي المرحلة الانتقالية وتنتهي ولايته بعد أربع سنوات، وبالمقابل، فإن هذا الأمر غير قابل للقبول بالمطلق من المعارضة السورية، أو بالأدق، من أصحاب الثورة، ومن الملايين من السوريين المنكوبين.
ولا يؤمل أن يخرج مؤتمر أستانة بنتائج كبيرة، أو هامة حتى، ربما ينجح جزئيا على صعيد تثبيت وقف إطلاق نار، لكن حتى هذا النجاح سيبقى هشّا، طالما لا يرافقه قرار أممي مُلزم لكل الأطراف تحت الفصل السابع، ولعل الخطر الكامن في استانة، أن يحوّل المعارضة السورية المتفرقة والمقسّمة والمتنافسة أساسا، إلى معارضة متناحرة متصارعة، بين من يوافق على نتائج أستانة وبين من يرفضها، وبين من يوافق على العودة إلى الداخل، وبين من يرفض ويعتبره “عودة لحضن النظام”، ويزداد صراع الشرعية بين أطراف المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، وهو ما سيؤدي إلى نتائج في غاية السلبية، تؤثر على حلم السوريين بإقامة بديل سياسي تعددي ديمقراطي في بلدهم.
كاتب سوري