مصر تكرم الغزاة.. قمبيز والسلطان سليم مثلا

قبل الغزو العثماني كان سلطان مصر يحمل لقب 'خادم الحرمين الشريفين'، وجسد الغزو أسوأ تمثيلات استغلال الدين في تسويغ الأطماع السياسية.
الثلاثاء 2018/02/20
مصر أرض المتناقضات

من أخطر ما يصيب شعبا أن يُقهر بالتغييب، أن يصحو فيجد بلده تابعا لبلد آخر، تحالفا باختيار حاكمه أو خضوعا بالاحتلال، أن يفاجأ بقرار يضطره إلى تغيير أوراقه الرسمية؛ لأن إمارة صارت مملكة أو مملكة أصبحت جمهورية. والأهون من هذا كله أن يمحى اسم شارع بدافع الكيد السياسي، كما جرى هذا الشهر (فبراير 2018) بإعلان محافظة القاهرة تغيير اسم شارع سليم الأول، بحجة أنه “مستعمر”، وكأنهم أفاقوا وفوجئوا بهذا الكشف الخطير.

لا جديد في تكريم مصر للغزاة. عبث يغيب فيه الرشد الحضاري وتختلط فيه الجهالة بلامبالاة الشعب بمعرفة الذين تحمل الشوارع أسماءهم. في حي راق بالعاصمة تجد ثلاثة شوارع لكل من الدكتور “مصدق” و“طهران” و“إيران”، اختيار قديم واع يفسده أن يوجد في الحي نفسه شارع “قمبيز” الذي يحظى بشارع ثان في حي راق آخر بالقاهرة. قمبيز، كما ترى، اسم غريب لا يحتاج إلى جهد لمعرفة أنه غير عربي، ولم يحـاول مسؤول أن يستبعد اسم هذا الفارسي الذي غزا مصر عام 525 قبل الميلاد، وقضى على الحكم الوطني للأسرة السادسة والعشرين. لم يؤسس العسكري الغازي مدينة، ولم يبشر بفلسفة.

وينقل سليم حسن في المجلد الثالث عشر من موسوعته “مصر القـديمة” عن المؤرخ الإغريقي هيرودوت أن قمبيز “أصابته لوثة.. بدأ يرتكب فظائع في مصر؛ فقد اضطهد حاشيته من الفرس كما اضطهد الكهنة المصريين واحتقر ديانة البلاد وعقائدها”، وأمر بإحضار جثمان “أحمس الثاني” الملقب بآخر الملوك المصريين العظام “من ضريحه.. أعطى الأوامر بجلده ونتف شعره ووخزه وانتهاك حرمته بكل طريقة ممكنة.. أمر قمبيز بحرقه”، في مخالفة صريحة للديانتين المصرية والفارسية.

الأمر أحيانا يتعدى التكريم إلى توارث الكسل، فمؤسسة الأهرام يحدها من الغرب “شارع حكر ابن الأثير”. لا ينتبه إلى هذا الشارع الصغير أحد، ولعل المنطقة كانت ضيعة، حكرا مملوكا للرجل وبقي منه شارع لم يشمله التغيير الملازم للثورات. في لحظة نادرة كرمت ثورة 25 يناير 2011 شهداءها، فانتزعوا محطة “الشهداء” بمترو الأنفاق من حسني مبارك. وقد منحت ثورة يوليو 1952 رجالا من البنائين العظام في العهد السابق شوارع حيوية منها سليمان باشا، وقـد أصبح اسمه شارع طلعت حرب ويتوسطه ميدانه وتمثاله. ولكن الثورات أبقت على شوارع لقتلة، منهم الخليفة المأمون والعثماني سليم الأول.

في مقال “نهر الدم المصري.. شراكة وشرك فاتحين ومستعمرين” المنشور في صحيفة “العرب” في 6 سبتمبر 2016 سجلت أن “الخليفة المأمون”، الذي يخلد اسمه شارع في القاهرة، كان أكثر شراسة في قمع ثورة البشموريين في شمال مصر. ويوثق تاريخ شعبي سجله ساويرس ابن المقفع في كتابه “تاريخ البطاركة” فظاظة عسكر المأمون، إذ تعقبوا الثائرين وقبضوا عليهم، “فهلكوهم وقتلوهم بالسيف بغير إهمال ونهبوهم وأخربوا مساكنهم وأحرقوها بالنار.. ولما نظر المأمون كثرة القتلى أمر العسكر أن ترفع السيف والذي بقي منهم أسره إلى مدينة بغداد من الرجال والنساء”، وكان طابور الأسرى يمتد من دلتا مصر إلى شاطئ دجلة. وفي 11 أغسطس 2015 قلت في مقال “المزاج الشعبي لا يخطئ كثيرا حين يلتقط الشفرة” إن جيش سليم العثماني قتل في يوم واحد حين استولى على القاهرة نحو عشرة آلاف مصري، وإنها “جريمة أخرى ضد الإنسانية تحتاج إلى من يحرك هذا الملف”.

 

لا جديد في تكريم مصر للغزاة. عبث يغيب فيه الرشد الحضاري وتختلط فيه الجهالة بلامبالاة الشعب بمعرفة الذين تحمل الشوارع أسماءهم

مصر أرض المتناقضات؛ فاللورد إدموند ألنبي المندوب السامي البريطاني لإطفاء شعلة ثورة 1919 انتهى مجرد دمية يحرقها أهالي مدينة بورسعيد، منذ جاء وحين غادر عام 1925 وإلى الآن، في احتفال جماهيري سنوي مسجل باسم الجنرال القادم من القدس مسبوقا بسيرته. ولم يعد الانتقام مرتبطا بالاحتفال بعيد الربيع، إذ ترسخ “اللمبي” في الوجدان الشعبي بالشخصية الساذجة العدمية الكاريكاتيرية، منذ إنتاج الفيلم الكوميدي “اللمبي” عام 2002. ولم يصب شيء من هذا الانتقام الشعبي غزاة قتلة من أمثال قمبيز الفارسي وسليم العثمانلي ومعهما الخديوي توفيق الخائن. ولا يقارن هؤلاء بعلماء وحكام أجانب صاروا جزءا من مصر، ولم يفارقوها أحياء وأمواتا، مثل عالم المصريات أوجست مارييت مؤسس المتحف المصري بالقاهرة، وقد دفن في حديقة المتحف. قل هذا أيضا عن شامبليون وعن المعز وخلفه الفاطميين ومماليك لم يكن لهم وطن آخر، وعن الأسرة العلوية التي لم تفكر في العودة إلى ألبانيا بلد عميدها محمد علي، ورغم النهاية التراجيدية لبعضهم، خلعا من الحكم ونفيا، فقد أوصوا بأن يدفنوا في مصر (الخديوي إسماعيل، والخديوي عباس حلمي الثاني، والملك فاروق).

منحت مصر أسرة محمد علي روحها، وإن لم يتحدث العربية منها إلا فاروق الأول والأخير، وكان محمد علي وافدا، وأذل المصريين مثل أي دكتاتور وطني، ولكنه لم ينزع خيرات البلاد وخبراتها البشرية لصالح بلد آخر، مثلما فعل السفاح سليم بغزوه مصر عام 1517، ولم يترك فيها إلا ذكرى القتل والنهب، ووصف ابن إياس جنوده بأنهم “همج كالبهائم”، لاستيلائهم على الممتلكات، وإشعالهم النار في المساجد والبيوت، واقتحامهم الجامع الأزهر وجامع أحمد بن طولون، كما أرسوا قاعدة فداء الأنفس بالمال، بخطف “أولاد الناس” من الطرقات والبيوت ومساومتهم، “فيقولون لهم اشتروا أنفسكم منا من القتل؛ فيأخذون منهم بحسب ما يختارونه من المبلغ”.

قبل الغزو العثماني كان سلطان مصر يحمل لقب “خادم الحرمين الشريفين”، وجسد الغزو أسوأ تمثيلات استغلال الدين في تسويغ الأطماع السياسية، ففي فبراير 1516 أرسل سليم إلى السلطان قنصوة الغوري يطمئنه، ويؤكد أنه لا يفكر في مصر أو الشام، “ويعلم الله، وكفى به شهيدا، أنه لم يخطر على البال قط طمع في أحد سلاطين المسلمين أو في مملكته، أو رغبة في إلحاق الضرر به.. الشرع الشريف ينهى عنه”. ولكن الشرع الذي ينهى عن غزو بلد مسلم أباح للسفاح الغزو. والتقى الجيشان في أغسطس 1516 في موقعة مرج دابق بالقرب من حلب، وقتل قنصوة وهزم جيشه، وعرضت السلطنة على طومان باي فظل يرفضها خمسين يوما. وأمام رفضه وزهده أقنعه العلماء بقبول السلطنة؛ لاقتراب الخطر “فتولاها غضبا عليه” كما سجل شمس الدين محمد بن طولون.

تقدم جيش العثمانلي، مدفوعا بفتوى شيخ الإسلام “علي زنبلك” بشرعية غزو مصر. وسوف ينتقم المصريون من صاحب الفتوى السياسية المشبوهة بإطلاق اسمه، “زنبلك”، على كل ما يمكن طيّه والتحكم فيه لمرونته، من السلك المعدني الأسطواني الملفوف إلى الجسد الطيّع للراقصات. وقد مُحيت سيرة الشيخ الذي قدم تلك الفتوى الزنبلك إلى سليم، فأرسل من مدينة القنيطرة إلى طومان باي تهديدا لا يحتمل التأويل بأن “الله تعالى قد أوحى إليّ بأن أملك الأرض والبلاد من الشرق والغرب كما ملكها الإسكندر ذو القرنين”. وشمل التخريب أيضا سرقة محتويات مكتبات بأكملها ومعها أنفس المخطوطات، وتفريغ مصر من أرباب أكثر من خمسين حرفة، ونقلهم إلى تركيا.

لن يغضب سليم، يغنيه ما نهب ومن قتل، ويكفيه حضوره مئة عام في شارع يتحرر من اسمه، يتحرر الشارع ولا أتحرر من التاريخ الذي يبدو أنه سيقضي عليّ، التاريخ لا الماضي. وآمل أن أتدبر للأسبوع القادم شيئا يمكن أن يقال عن عرب في غربة يسمونها منفى، في ضيافة العثمانلي، ولا أدري أي شيطان يلوح لي بصورة لحكومة فيشي.

9