مستقبل الشباب محكوم بتخصص جامعي يحدده الأهل وسوق العمل

لندن – تعد الجامعة الخطوة الأولى التي تحدد مستقبل الشباب ومسيرتهم المهنية، ويندرج تحديد التخصص العلمي في إطار خيارات الطالب ويعد من القرارات الأكثر أهمية في حياته، غير أن هذا الخيار غالبا ما يكون محكوما بعوامل أخرى بعيدة عن رغبات الشاب وميوله وموهبته.
ويرى المتخصصون أن الرغبة يجب أن تكون العامل الأساسي في اختيار التخصص الجامعي الذي يرى الطالب نفسه ومستقبله فيه، ويقبل عليه بثقة، ويحس بتوافق وانسجام معه وبمتعة شديدة في دراسته، أما إذا أحس بالملل أو النفور فعليه إعادة النظر في قراره قبل أن يضيع سنوات عديدة من حياته دون طائل.
رغبات الشباب تتنحى جانبا
ويوافق البعض من أولياء الأمور على فكرة أن التخصص الجامعي يجب أن يُتْرَك للشاب في المقام الأول، بحسب رغبته الدراسية باعتبار أن تدخل الأسرة في اختيار التخصص لأبنائها ربما يعود بنتائج سلبية على الأبناء في المستقبل ويمكن أن يؤدي إلى فشلهم الدراسي. إلا أن معظم الشباب يعايشون وضعا مختلفا، فتتنحى رغبتهم الشخصية جانبا أمام تدخلات الأهل ورؤيتهم لمستقبل الشباب، لا سيما إذا تعلق الأمر بالفتيات.
وتعتبر حالة الطالبة روضة العلي في كلية التربية من دمشق، مشابهة للآلاف من الطالبات في العالم العربي، اللواتي خضعن للضغط الأسري من أجل اختيار تخصص يمكنهن من مباشرة مهنة التدريس، واضطرت إلى أن تتنازل عن رغبتها في دراسة الآثار والمتاحف.
وقالت العلي في تصريحات لـ”العرب” إنها تدرس هذا التخصص مجبرة لأنها لا تحب مهنة التعليم، وتشعر بأنها لن تستطيع النجاح فيها، لكن لا سبيل لديها لتغيير تخصصها رغم إدراكها أن حب ما يدرسه أي شخص والتعلق به هو ما يحقق الفارق في تحقيق نتائج أفضل.
من جهته كان محمد فياض (22 عاما، من دمشق) يرغب في دراسة علم الكيمياء الذي يعشقه، وحصل على معدل مرتفع، فرأى والده أن من الأفضل له أن يدرس الهندسة الإلكترونية، باعتبار أن هذا التخصص مطلوب في سوق الشغل، وبالتالي مستقبله مضمون.
الشباب يعيشون حيرة شديدة إزاء التخصص الذي يلتحقون به، وفق حدود المعدل الذي يحصلون عليه بغض النظر عن قدراتهم النفسية والذهنية
ولم يتردد فياض كثيرا في القبول بهذا التخصص لأنه يدرك أن الرغبة تتعارض أحيانا مع احتياجات الحياة وسوق الشغل، ويقول “باعتباري شابا أنا بحاجة إلى مجال تكون الفرص أمامه مفتوحة”.
ويعتبر وضع مريم سعدي مشابها، حيث كانت تتمنى دراسة الفنون الجميلة، ولكنها اختارت شعبة الحقوق، وتكتفي بممارسة الرسم كهواية، وهي تفكر في العودة إلى دراسته بعد إتمام الدراسة في شعبة الحقوق.
وقررت سعدي التركيز على الجانب الإيجابي وتحاول أن تحب دراستها بالاطلاع على مشاكل الناس والأحكام القضائية ومواد الدستور، وتقديم المعونة الاستشارية للمحيطين بها، وهي الآن على أبواب التخرج.
المعدل يتحكم في الاختيار
ويعيش الشباب حيرة شديدة إزاء التخصص الذي سيلتحقون به، وفق حدود المعدل الذي يحصلون عليه، فإذا كان منخفضا قلت فرصة الالتحاق بالتخصص الذي يريدونه وإذا ارتفع المعدل يتدخل بعض أولياء الأمور في توجيه رغبة أبنائهم متناسين قدرات هؤلاء الأبناء النفسية والذهنية.
كما تتداخل عدة عوامل في اختيار التخصص الدراسي، منها الأصدقاء ووسائل الإعلام والإنترنت، والعادات والأعراف، وسيادة بعض المفاهيم الخاطئة، ما يجعل من الاختيار الصحيح للتخصص أمراً صعباً ومعقداً يترك الطالب في حيرة بين ميوله ورغبات الآخرين والإمكانات المتاحة أمامه.
ولا يجب إغفال القدرات الذهنية والعلمية والجسدية والنفسية، فالتميز في المعرفة -وخاصة في بعض المجالات كالطب مثلاً- يتطلب توافر هذه القدرات، فتخصصات المجال الطبي ليست عملاً مترفاً؛ وإنما هي جهد عقلي وبدني يقتضي درجة عالية من الاستعداد النفسي والصبر والدقة.
ويرسم البعض من الشباب خطوطا محددة لما يريدونه استنادا إلى مجال العمل، وما يتوافق مع متطلبات سوق الشغل، بحيث تكون الحاجة الفعلية إلى التخصص مستمرة وليست محدودة بمكان أو زمان أو وفرة أو ندرة، ولا يلجأون إلى تخصصات لا تحتاجها قطاعات المجتمع، وفي هذا السياق يعتبر خليل الأحمد أن المسؤولية تُلقى على الشاب إذا اختار تخصصا يجعله أسيراً لبطالة طويلة الأجل، ثم يلقي اللوم على الجهات المعنية بالتوظيف.
انعدام الوعي بالتخصص
وتابع الأحمد الطالب في كلية الهندسة بالقاهرة قائلا إن عدم الإلمام بالتخصصات العلمية المتاحة يحد من اختيار الطلاب للدخول في التخصصات العلمية لا سيما بعد استحداث العديد من التخصصات العلمية والهندسية الجديدة التي يحتاج إليها سوق الشغل في الوقت الراهن.
وقال إن هناك العديد من هذه التخصصات العلمية غير معروفة بالشكل المطلوب فالطالب غير مدرك للفرص المتاحة له في سوق الشغل في حال درس تخصص الهندسة الكيميائية على سبيل المثال، ودعا الطلاب إلى تعزيز الوعي بمعرفة تفاصيل التخصصات المتاحة في المجالات العلمية وفرص العمل المتاحة على المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الإجتماعي والمجلات المتخصصة، لكنها تحتاج إلى بذل الجهد في البحث والتقصي.
وتحدث رائد الحسين رئيس قسم الطرق الكمية ونظم المعلومات في كلية العلوم الإدارية بجامعة الكويت، عن عدم وجود الوعي الكافي بأهمية التخصص، وقال “إن انخفاض أعداد الطلبة بالقسم يعتبر مشكلة أزلية نعاني منها لأسباب عدة، فمسمى القسم غامض وغير مألوف ولا يفهمه الكثير من الطلبة، ولأن الطلبة يعرفون معنى نظم المعلومات نجدهم يميلون إلى تخصص إدارة نظم المعلومات، ولكن إقبالهم على القسم يظل أقل من الإقبال على الأقسام المشهورة في الكلية كالاقتصاد والمحاسبة والتسويق، لذلك نحن بصدد تغيير مسمى التخصص كما فعلنا من قبل”.
ويرى بعض الطلاب أن من أسباب الابتعاد عن دراسة العلوم، البيت والمدرسة، في حين قال آخرون إن المعلم هو المسؤول عن دفع الطالب وترغيبه في دراسة المواد العلمية، وترك المجال مفتوحاً للتجريب والعمل يدوياً، وأرجع البعض الآخر الموضوع إلى منهج الدراسة، فهناك من يدرس تخصصاً ويصرف عليه أموالاً طائلة ثم يرجع ليمارس تخصصاً آخر، وذلك يشكل هدراً للمال والجهد والوقت.
بدوره أفاد الطالب زياد النعمان من دمشق، بأنه “عند اختيار أحد التخصصات التي يمكن التسجيل فيها، قم بالاطّلاع على المواد التي سوف تدرسها خلال السنة الدراسية، ذلك لأنّك من الممكن أن تقع في الفهم الخاطئ لما يحويه التخصّص”.
ويضيف “لو أنجِز استفتاء في الجامعات لوجدوا أن 80 بالمئة من الطلاب يدرسون ما لا يرغبون فيه، والأكيد أن أفضل طريقة للعطاء وتقديم الأفضل في التخصص، هي الجمع بين الدراسة والهواية أو الرغبة، لكنها معادلة صعبة”. وشددت المختصة التربوية فاطمة مبارك على دور المعلم في ابتعاد الشباب عن التخصصات العلمية، معتبرة أن المؤسسة التعليمية تلعب دورا كبيرا في تحديد توجهات الطلاب الدراسية فيما تدرك أهمية توجيه الطالب منذ الطفولة إلى اهتمامات يمكن أن تنميها بداخلهم المدرسة التي تكشف مواهب الطلاب الموجودة ودور المعلم الذي يقتصر على الإرشاد والتوجيه والاهتمام بتحديد التخصص العلمي المناسب لقدرات الطلاب ومهاراتهم وميولهم.
ويطالب المتخصصون بأهمية تشجيع الشباب على دراسة المواد العلمية في المدارس والجامعات ومن ثم إلحاقهم بالعمل في مجالات ذات صلة بالعلوم بشكل عام وبتخصصات تحتاجها البلاد بشكل خاص، خاصة وأن عدم إتاحة فرص التجريب والتطبيق في المختبرات أمام طلبة التخصصات العلمية تسبب في جعل بيئة الدراسة العلمية جافة وطاردة وغير مشجعة لطلبة الثانوية لإكمال دراستهم الجامعية في التخصص العلمي، الأمر الذي دفع الجهات ذات العلاقة إلى التفكير في إيجاد برامج ومبادرات تخلق بيئة أكاديمية جاذبة ترغِّب الطلبة في الالتحاق بالتخصصات العلمية.
وتحدث طلاب إماراتيون عن تجربتهم في اختيار التخصصات التي تناسب ميولهم، من خلال المعارض المهتمة بالمجالات التي يمكن العمل فيها عند الالتحاق بتخصصات معينة.
وتقام العديد من الفعاليات والمؤتمرات والمعارض في الإمارات لتحفيز الشباب على اختيار التخصصات العلمية، ومنها مهرجان العلوم. وأشار وسام قباني المسؤول في مؤسسة ترويج العلوم والتكنولوجيا إلى أن المهرجان الذي شاركت مؤسسته في تنظيمه لاقى نجاحاً باهراً في نسخته الأولى مستقطباً أكثر من 100 ألف زائر من خلال قدرته على إثارة الفضول العلمي لدى جيل الناشئة من خلال فعالياته العلمية الشيّقة.
المستقبل رهين الخيار الصحيح
يطالب المتخصصون بأهمية تشجيع الشباب على دراسة المواد العلمية في المدارس والجامعات ومن ثم إلحاقهم بالعمل في مجالات ذات صلة بالعلوم بشكل عام وبتخصصات تحتاجها البلاد بشكل خاص
ويرى متخصصون تربويون أن نجاح الشاب في حياته العملية بعد الدراسة يتوقف على مدى توفيقه في اختيار التخصص الصحيح الذي يتناسب ويتوافق مع ميوله وقدراته واستعداداته، فإن كان اختياره صائباً ومراعياً لإمكاناته الذهنية وميوله فإنه بلا شك سيجد نفسه في هذا التخصص، وسيمتلك أدوات النجاح، على عكس الآخر الذي يستسلم لرغبات الأسرة، أو لاستشارة الزملاء أو الأصدقاء وإن كان ذلك معاكسا لرغباته، فإنه على الأرجح سيحصد الإخفاق والفشل، وسيواجه صعوبات كبيرة في مستقبله العملي لا محالة.
وربما يحقق الطالب نجاحاً في دراسته رغم نفوره من تخصصه وكرهه له، ولكنه لن يقوى على الانسجام معه في مستقبله العملي، وسيكون أداؤه روتينياً وضعيفاً وخالياً من التميز والإبداع، وتجده دائماً يمارس عمله وكأنه مكره عليه أو مجبر. والشواهد والأمثلة كثيرة في مواقع العمل المختلفة.
ويقول الطالب عبدالله الغامدي في قسم الإعلام في السعودية، “على الطالب اختيار أي تخصص مهما كان أدبيا أو علميا يرى نفسه فيه”، ويوجه نصيحة “ضع كل اهتمامك وطاقتك في هذا القسم فالأرزاق بيد الله.. ولا يغرك كلام الناس الذي يقول إن المستقبل في الأقسام العلمية فقط… هذا الكلام ليس صحيحا، أبدع في قسمك مهما كان هذا القسم واحصل على درجات عليا وابذل جهدك”.
من جهته اعتبر أحمد الطراونة من الأردن أنّه لا توجد دراسة حقيقية لمتطلبات السوق والدليل أنّ الكثير من الشباب يُعانون من البطالة كما أنّ سوق الشغل تحتاج إلى خبرة في المجال الوظيفي وهي غير متوفرة لدى الطلاب حديثي التخرج من الكليات والجامعات حيث أنّ الشباب يتخرجون من دراساتهم العليا بخبرة تعليمية وليست عملية مناسبة.
وأضاف أن الكثير من الطلاب يقولون إنهم ذهبوا إلى شركات وأجروا المقابلات، وقدمت لهم أسئلة لا يعلمون إجاباتها واعتبروها فوق طاقتهم العلمية وهذا الأمر يدل على أن التدريب الميداني غير فعال والحل الأمثل لهذه المشكلة هو إعادة النظر في تكثيف التدريب ومراقبة مستوى التدريب الميداني لهم.
كما يجب على الشاب أن يعيد النظر في تقبل بدائل العمل في ظل الأزمة الاقتصادية في البلد وعليهم أن يوقنوا أن مستقبل الوظائف لا يزال متوافراً، ويجب أن يسعوا لتحقيق مطالبهم ويبدون شيئاً من المرونة لتحقيق الأهداف.