مؤتمر ميونيخ.. نظام عالمي جديد لمرحلة ما بعد الدبلوماسية

عكست أجواء مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي إلى حد كبير الصورة السوداوية التي رسمها التقرير الاستراتيجي الذي يصدره المؤتمر بشأن العالم الذي يبدو على شفا الهاوية. لقد تحولت قاعات المؤتمر إلى ساحة صراع وتبادل اتهامات، ودبلوماسية شعبوية ترسم ملامح نظام عالمي تتلاشى فيه صورة المجموعات المختلفة فيما بينها على طاولة حوار واحدة، لحساب سياسات تتبنى الحسم وتتخذ من ضوضاء الشعبوية محركا أساسيا لدفاعاتها.
الثلاثاء 2018/02/20
انهيار الدبلوماسية لصالح خطاب شعبوي

لندن - شكّل مؤتمر ميونيخ للأمن على مدار أعوام ملتقى لحل خلافات معقّدة بين قوى متصارعة، وجرت على هامشه لقاءات ساهمت أحيانا في عبور أزمات كبرى استنادا على دبلوماسية مرنة، لم تكن حاضرة في مؤتمر هذا العام.

وغلب خطاب تصعيدي على نقاشات المؤتمر وكلمات زعماء ووزراء خارجية ودفاع كانوا مستعدين لمواجهات محتملة مع خصومهم، الذين لم يترددوا بالرد، مثلما حدث بين أمين عام الجامعة العربية أحمد أبوالغيط ووزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو في اليوم الأخير للمؤتمر.

وهاجم أبوالغيط العملية العسكرية التركية في عفرين، شمال غرب سوريا، معتبرا أن النظام العربي لا يمكنه قبول تدخل تركيا في دولة عربية. لكن سرعان ما قاد أوغلو هجوما مضادا تضمن لغة عنيفة على أبوالغيط، متهما النظام العربي “بالتمييز والضعف”.

وسرد أوغلو نقاط ضعف جامعة الدول العربية تجاه مواقف الولايات المتحدة في سوريا، وضغط على الموقف العربي المتردد إزاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ومبادرة السلام التي تتبناها إدارته، فيما عُرف إعلاميا بـ”صفقة القرن”.

كما وصل الاحتقان إلى تدخل الشرطة لحماية المشرع الألماني من أصول تركية المنتمي لحزب الخضر جيم أوزديمير من الوفد التركي، إذ كان أوزديمير يقيم في نفس الفندق الذي يقيم فيه رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم.

خطاب تصعيدي غلب على خطاب وكلمات زعماء ووزراء خارجية ودفاع كانوا مستعدين لمواجهات محتملة مع خصومهم

شعبوية الدبلوماسية

يقول محللون إن دول العالم على ما يبدو باتت مستعدة أكثر من أي وقت مضى لتبني سياسات هجومية تقلص كثيرا من قدرة الدبلوماسية على ضبط الأمور، وعدم السماح بحدوث انفلات في العلاقات الدولية.

ومن الممكن أن تقود هذه السياسة، التي لا يبدو أنها تبالي بالدبلوماسية والتفاهمات الثنائية كثيرا، إلى التعزيز من مخاطر وقوع نزاعات غير محسوبة العواقب.

وقال الخبير السياسي الألماني ماتيس فونهايم “بدا الأمر خلال جلسات المؤتمر وكأن الدبلوماسية قد وصلت إلى نهاية الطريق”.

وصعود تنظيمات اليمين المتطرف وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتولي دونالد ترامب الحكم في الولايات المتحدة، كانت نقاطا حاسمة في انتقال الشعبوية تدريجيا إلى العلاقات الدولية والخطاب الدبلوماسي بشكل عام.

ويتسم هذا الخطاب بالحمائية الانعزالية والاعتماد على تغذية المشاعر القومية. ويتبنى في الشرق الأوسط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا النهج في مواجهة خلافات عميقة مع الولايات المتحدة خصوصا في سوريا، كما شهدت دول أخرى، كمصر والسعودية، إعادة إحياء، في وسائل الإعلام وخلال الخطابات الرسمية، لصيغة “الوطنية” كمحرك أساسي لحشد الجمهور خلف إصلاحات جذرية يتبناها البلدان.

وأكثر أنظمة المنطقة تبنيا لخطاب شعبوي تصعيدي تجاه الغرب هو النظام الإيراني، الذي يتخذ من سياساته العدائية منطلقا لتنفيذ رؤيته القائمة على دعم ميليشيات مسلحة كي تحل محل مؤسسات الدولة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة.

وتحولت قاعات مؤتمر ميونيخ لساحة صراع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف.

ووجه نتنياهو كلاما لاذعا إلى ظريف، ملوحا بقطعة معدنية في يده قال إنها من بقايا طائرة دون طيار إيرانية اخترقت المجال الجوي الإسرائيلي، في حادثة أدت إلى إسقاط طائرة إف 16 إسرائيلية على الحدود بين سوريا والجولان المحتل.

وقال نتنياهو لظريف “هل تعرف ما هذا؟ يجب أن تعرف جيدا لأنها طائرتكم”. وهدد نتنياهو بتوجيه ضربات إلى إيران نفسها.

لكن سرعان ما رد ظريف على التهديدات الإسرائيلية، معتبرا أنها “سيرك”، وأن إسقاط طائرة إسرائيلية مقاتلة “حطم ما يعرف باستعصاء إسرائيل على القهر”.

ويقول دبلوماسيون كانوا حاضرين في القاعة خلال المشادة بين الجانبين، إنهم شعروا بأن “معركة على وشك أن تقع”. وقالوا إن “الأمر كان أقرب إلى حديث العسكريين الذين ليس لديهم أي خبرة ولا يعرفون شيئا عن الدبلوماسية”.

وطوال جلسات المؤتمر، حاول وولفغانغ اشينغر، الدبلوماسي الألماني الذي كان يدير فعالياته، إعادة التركيز على الخروج بمقترحات لحلول يمكن أن تسهم في إنهاء صراعات عدة، لكن دون جدوى.

وخلال 3 أيام صعد المنصة عشرات القادة ووزراء الخارجية والدفاع الممثلين لدول وقارات عدة، وضعوا أيديهم على مواضع الخطأ، ومكامن الخطر، دون أن يقدموا للعالم وصفة واضحة للإصلاح.

وقال دبلوماسي عربي، كان ضمن وفد بلاده المرافق لوزير خارجيته، لـ”العرب” إن “هذا أول مؤتمر نحضره في ميونيخ ولم يخرج بأي حلول تذكر”.

وتركزت المشادات خصوصا بين دول في الشرق الأوسط، المنطقة ذات النصيب الأكبر من الصراعات والاحتقان.

وشن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير هجوما حادا على إيران. وقال الجبير “يجب أن تغير إيران الكثير في سياستها إذا أرادت أن نعاملها كدولة طبيعية”، مضيفا “النظام الإيراني حاول زعزعة استقرار اليمن والعراق وسوريا ولبنان. سنواصل الضغط على إيران لتغيير سلوكها”.

أوروبا الحائرة

بدا خلال المؤتمر أن زعماء أوروبا يسيرون في اتجاهات متقاطعة، إذ تمر دول القارة بخلافات لم يسبق لها مثيل منذ سبعينات القرن الماضي. وشددت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي على أن التكامل الأوروبي ضرورة وليس رفاهية، لكنها لم تقدم استراتيجية ملموسة لتطويره وتجاوز نقاط ضعفه المتمثلة في عدم وجود سياستي دفاع وخارجية مشتركتين.

كما هيمنت الخلافات، خصوصا في ما يتعلق بسياسات الاتحاد الأوروبي الدفاعية، على علاقة الأوروبيين بالولايات المتحدة. وكان الاتفاق على وضع سياسات مشتركة للأمن هو أكثر العوامل الضرورية الغائبة عن “مؤتمر ميونيخ للأمن”. ومع ذلك حاولت الدول الغربية العثور على حلول وسط بخصوص تبني سياسة مشتركة للدفاع، دون أن تؤثر على تماسك حلف الناتو.

وتشعر دول أوروبية بالقلق إزاء سياسات ترامب، التي تنحاز بوضوح لتغليب الحلول العسكرية. ويقول فونهايم “الأوروبيون كشفوا للأميركيين عن قلقهم إزاء تجاهل واشنطن للدبلوماسية، وهو ما يتجلى بوضوح في خفض الميزانية الحاد التي أجرتها إدارة ترامب على وزارة الخارجية الأميركية”.

وأضاف “كانت الشكوى الرئيسية هي أنه إذا أجريت محادثات فقط من وجهة نظر التفوق العسكري، فإنها لن تكون محادثات إذن وإنما أوامر”.

وترجم غياب الدبلوماسية في تعليقات المسؤولين الأميركيين التي كانت تفتقد في كثير من الأحيان للأعراف التقليدية في انتقاداتهم للسياسات الأوروبية، قبل أن يعلن الجانبان التوصل إلى تفاهمات مؤقتة طمأنت المسؤولين الأميركيين.

أوروبا تسير في اتجاهات متقاطعة
أوروبا تسير في اتجاهات متقاطعة

وتعيش الولايات المتحدة كابوس تراجع نفوذها العسكري، الذي ظل ثابتا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، في أوروبا. كما تخشى تقلص قدرتها على التأثير في قرارات الاتحاد، خصوصا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست).

وكان بريكست حاضرا بقوة في المؤتمر. وأرسل وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل رسالة واضحة للبريطانيين، وقال إن “المملكة المتحدة ستخرج من الاتحاد لكنها لن تخرج من أوروبا”، وقال اشينغر “كانت الأمور ستصبح أسهل كثيرا إذا اخترتم البقاء”.

لكن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أكدت في المقابل على خروج بلادها، وعرضت بدلا من ذلك اتفاقا للتعاون الأمني والاستخباراتي والتعاون في ملف مكافحة الإرهاب بين البريطانيين والأوروبيين، بحيث يدخل حيز التنفيذ العام المقبل، لكنها رفضت أي حديث عن إمكانية إجراء استفتاء ثان على الخروج.

وكان الاشتباك الذي وقع بين الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو، ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مثالا آخر على انهيار الدبلوماسية في هذه الدورة من المؤتمر.

ووصف بورشنكو روسيا بأنها “مصدر كل الأزمات التي تتعرض لها الدول الأوروبية في الوقت الراهن”، مطالبا بمزيد من الضغط على موسكو، كما رفض أيّ تخفيف للعقوبات، وأعرب عن رغبته في قبول انضمام أوكرانيا كعضو في الاتحاد الأوروبي والناتو.

وردا على ذلك، اتهم لافروف أوروبا بـ”العودة إلى الحقبة النازية”، ووصف اتهامات الولايات المتحدة للروس بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية بـ”الهراء”، كما أكد على أن إعلان واشنطن الأخير عن عزمها على تعزيز ترسانتها النووية لم يترك أي خيار أمام روسيا سوى أن تفعل الشيء نفسه.

ويقول سياسيون سابقون إن مؤتمر ميونيخ هذا العام كان مرآة لملامح النظام العالمي الجديد الآخذ في التشكل، ولقواعده الجديدة التي تهمّش الدبلوماسية لحساب سياسات تتبنى الحسم وتتخذ من الشعبوية محركا أساسيا لها.

7