3 يوليو.. مرحلة ما بعد الإخوان المسلمين

نعم تغير وجه المنطقة في 3 يوليو 2013. ثمة دول في الشرق الأوسط تحولت مع الوقت إلى بؤر نفوذ لتنظيم الإخوان المسلمين، ودول أخرى يظل التنظيم فيها هو الحاكم الفعلي، دون أن يمسك بزمام السلطة.
خذ مثلا الجزائر وتونس وليبيا والأردن واليمن. هذه دول مازال الإسلاميون يتمتعون فيها بمستوى من حرية الحركة يفوق كثيرا نفوذ الإخوان في بلدهم الأصلي مصر في مرحلة ما قبل الربيع العربي. هذا يحدث بعد مرور أربعة أعوام على قصم ظهر التنظيم في المنطقة برمتها.
تخيل لو أن محمد مرسي مازال يحكم مصر إلى الآن، كيف كانت لتبدو المنطقة؟
كل هذه الدول كانت ستتحول إلى بؤر للفوضى بعدما تنجح أفرع التنظيم بسهولة في الوصول إلى حكمها، لكن هامش النفوذ الأكبر كان سيتركز بين أضلاع مثلث يتكون من مصر (الإخوان) وقطر وتركيا.
هذا التكتل له توابع أهمها توظيف الإخوان للإمكانيات الكبيرة لهذه الدول من أجل خلق محور لنفوذ راديكالي سني يتزعمه الإخوان. هذا المحور مناسب تماما لتنظيم القاعدة وكل التنظيمات الجهادية التي تبحث عن ملاذ آمن بديل عن أفغانستان.
المحور الثاني سيكون من نصيب الإسلام السياسي الشيعي. أسلمة المنطقة هي مبرر منطقي يمكن للنظام الإيراني توظيفه لإقناع الإيرانيين، وكل ميليشياته في المنطقة، بأن تحالفا طائفيا سنيا صار يشكل تهديدا على دولة الخميني.
كل الظروف ستصبح مهيأة الآن للتسريع من تنفيذ المشروع الإيراني في شكل “الهلال الشيعي”. النتيجة الوحيدة لهذا السباق الإسلاموي هي خروج حالة الحرب الأهلية من حدود دولة أو اثنتين، لتشمل المحيط العربي بأسره.
|
براغماتية سياسية من أجل البقاء
ثمة قضية واحدة يجتمع عليها المحوران الإسلاميان وهي عداء الخليج. منطقة الخليج كانت لتصبح هي الضحية. استراتيجيا هذه المنطقة محشورة بين تشددين. أحدهما يبذل قصارى جهده من أجل تحويلها إلى بؤرة شيعية تمثل حديقة خلفية له، والآخر يسعى بكل ما أوتي من قوى للوصول إلى الحكم في دولها، وتوظيف ثرواتها ضمن مشروعه الأيديولوجي. كل هذه الثروات لم تكن لتكفي حينها كي يستطيع الخليجيون الحفاظ على تماسك شعوبهم والروابط التي تجمع بينهم. هذا ليس سهلا عندما تكون الطعنات الموجهة إلى البيت الخليجي من داخله قبل أن تأتي من خارجه.
كل التنظيمات الإرهابية تجد المجال مهيأ لكي تنشط في مثل هذه الظروف. سيكون مستحيلا تصور أن تنظيم داعش يتراجع، بينما أكثر الدول نفوذا وثروة في المنطقة يحكمها الإخوان المسلمون. إذا كانت تركيا قد وظفت التنظيم لتحقيق مصالحها في سوريا، وقطر مازالت تدعم القاعدة في وقت موت الإخوان إكلينيكيا، فتخيل لو كانوا باقين في حكم مصر إلى اليوم؟ ماذا كانت تركيا وقطر لتفعلان أكثر من ذلك؟
مشكلة هاتين الدولتين أنهما لم تلحقا بخطوات التاريخ المسرعة. بعد 3 يوليو 2013 تجاوزت المرحلة منطق الإسلاميين وعلامتهم التجارية التي لاقت رواجا كبيرا بعد الربيع العربي. بعض فروع الإخوان قررت الانحناء للعاصفة.
خذ حركة النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية المغربي وإخوان الأردن. هذه فروع اختارت براغماتية السياسة على الأيديولوجيا من أجل البقاء.
لكن قطر وتركيا، ومعهما حركة حماس وإخوان ليبيا، وقعوا جميعا في فخ كلاسيكي ومتوقع، وهو تغليب التشدد العقائدي على مقتضيات السياسة.
تركيا وقطر لم تفهما حقائق ومتطلبات المرحلة التالية لـ3 يوليو، ولم تستقلا قطار التغيير الذي سبقهما نحو المستقبل
النتيجة هي أن تركيا تحولت من سياسة “صفر مشاكل” إلى واقع “صفر علاقات” مع محيطها في المنطقة وفي أوروبا. عناد قطر أوصلها إلى مقاطعة إقليمية واسعة تكسب أرضا في الغرب كل يوم.
تركيا وقطر لم تفهما حقائق ومتطلبات المرحلة التالية لـ3 يوليو، ولم تستقلا قطار التغيير.
هذا التغيير طال الغرب، رغم أنه لم يصل إلى بعض المناطق في العالم العربي.
تغير نظرة الغرب للإسلاميين
ثمة مفاهيم تقليدية كانت تحكم العقل الغربي تجاه الإسلاميين، وتغيرت تماما بعد 3 يوليو 2013. لم تعد جماعات الإسلام السياسي الضامن الوحيد للاستقرار، ولم تعد القوة الوحيدة القادرة على تحريك الشارع. الجيش المصري أثبت وقتها أن الإستقرار يكمن في مؤسسات الدولة المهنية، ونقل القدرة على تحريك الناس إلى مستويات جديدة.
قبل الحراك الثوري في مصر كان ملف الإخوان المسلمين قضية يتم احتكارها من قبل حركات اليسار والحقوقيين والأحزاب العمالية في الغرب. بعد ذلك تحول الملف إلى مسألة دينية وعقائدية، وقضية تستطيع كل مكونات المجتمع الغربي طرحها للنقاش.
فوق كل ذلك وضع 3 يوليو حدا للفكرة الأساسية التي قام على جوهرها قبول العالم لنموذج تسييس الدين وتديين السياسة. النظرة الاستشراقية التاريخية للمنطقة كانت محور اعتقاد دول كبرى في الغرب بإمكانية خلق أحزاب إسلامية “معتدلة” تشبه الأحزاب المسيحية التي سعت لحكم أوروبا في ما بعد الحرب العالمية الثانية. خذ مثلا حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. هذا حزب تمكن من جمع بعض أسس الرأسمالية وخلطها مع بعض المفاهيم الاشتراكية، وتلك المتعلقة بتكوين الأسرة وتركيبة المجتمع، ودمج كل ذلك ضمن الحركة التاريخية للديمقراطية الليبرالية الحاكمة في المجتمعات الغربية.
المشكلة ليست في التنظيم المشكلة الحقيقية في الفيروس الذي زرعه الإخوان في عقول ملايين العرب والمسلمين
هذا نموذج غير قابل للتحقق في العالم الإسلامي. نحن مجتمعات مازالت تعاني أزمة مفاهيم. مازالت فكرة الجهاد تحكم فكر كثيرين ممن لا ينتمون لمعسكر الإسلاميين، ولا تزال المؤسسات الدينية الرسمية غارقة في مستنقعات التراث ولا ترغب في التحرر من أعبائه، ومازالت اللحى الطويلة والجلابيب القصيرة التي يرتديها “الناس بتوع ربنا” مقبولة في العمل السياسي.
الإطاحة بالإخوان في مصر أجبرت الغرب على إعادة النظر في فلسفته القديمة. صعود دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة قلب المعادلة تماما.
اكتشفنا بعد سقوط الإخوان أن مفهوم “الحرب على الإرهاب” الذي ظهر مع بداية القرن الحادي والعشرين هو مفهوم غير مكتمل. عدم الوصول إلى تعريف واضح لفكرة الإرهاب نفسها، جعل كل الدول، شرقا وغربا، تنشغل بحرب الإرهابيين باعتبارهم وجه الإرهاب الذي يمكن التعامل معه على أسس حسية ومادية. العالم وجد أن قتل الإرهابيين هو ممارسة لا نهائية.
الأمر يشبه ألعاب الفيديو. كلما قطعت رأسا للوحش خرج له رأسان.
لم يكن هناك من يوجه فوهة البندقية في الاتجاه الصحيح. ثورة 30 يونيو 2013 في مصر فتحت أعين العالم على مصنع الأفكار التي تنتج هؤلاء الإرهابيين.
ما نعيشه اليوم هو بداية مرحلة ما بعد الإخوان المسلمين. الأمر يحتاج إلى عشرة أعوام بدأت فعليا بسقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر عام 2013، لكن التخلص الكامل من التنظيم سيحتاج عقودا. إذا كان صعود الإخوان إلى الحكم استغرق 90 عاما، فالقضاء عليهم تماما يحتاج أقله إلى نصف هذه المدة.
المشكلة ليست في التنظيم وهياكله وفروعه وأهدافه. المشكلة الحقيقية في الفيروس الذي زرعه الإخوان في عقول الملايين من العرب والمسلمين. لن يستطيع اقتلاع فكرة الإخوان من جذورها إلا فكرة أعمق وأكثر تأثيرا وجذبا للناس.
كما كانت مصر مهد الحركات المتشددة ومنصة إطلاقها الأولى، ستكون السد الذي سيقف في وجه هذا المد التاريخي. لا دولة إسلامية أخرى تملك الإمكانيات ولا الشرعية التي تمكنها من القيام بهذه المهمة القاسية.
المسألة تحتاج إلى وقت ودعم ومشروع حقيقي. لأول مرة تصبح أمام المنطقة فرصة سانحة لاستعادة عقلها المغسول. الفرصة تكمن أيضا في جيل من الحكام العرب المختلفين. ثمة رؤية وإمكانيات مالية وفكرية. ما ينقصنا هو المشروع طويل المدى، وخطة واضحة لتنفيذ هذا المشروع.
3 يوليو 2013 لم يكن سوى البداية لرحلة طويلة وشاقة ستستهلك أجيالا كي نصل إلى نهايتها. إن لم تنته الرحلة بالقضاء التام على الإخوان وكل ما يمثلونه، فسيصبح كل ما يحصل اليوم جزءا من تاريخ مكرر لا قيمة له. على أحدهم أن يعي ذلك، وإلا فلن تكون هذه الصحوة سوى صفحة نغلقها ونصمت للأبد.
كاتب مصري